رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المهنية يا إخوة العرب فى قناة الجزيرة

لكل مهنة أخلاقيات ومعايير قبل وبعد أن يكون لها تنظيم قانوني. ولا يمكن لقانون مهما يبلغ كماله أن يُغنى عن وجود أخلاق مهنية غير مكتوبة مستقرة فى ضمير من يمارس المهنة. وحينما يتأمل المرء الأداء المهنى لقناة الجزيرة فى متابعة قضية السد الإثيوبي، وربما غيره من القضايا، يثور على الفور سؤال المهنية. وابتداء فمن غير المنصف إنكار الدور الذى قامت به قناة الجزيرة فى بداية انطلاقها عام 1996 وكأنها كانت حجراً أُلقى فى مياه الإعلام العربى الراكدة آنذاك. قد يرى البعض هذا الحجر بمعنى سلبى وقد يراه آخرون بمعنى إيجابي، لكن تلك ليست هى القضية الآن، فقد استطاعت الجزيرة استقطاب أفضل الكفاءات العربية المميّزة فى مجال الإعلام، وكانت أول فضائيةعربية إخبارية تبهرنا بتقنياتها وابتكاراتها وجديد برامجها وشبكة مراسليها الاحترافية الواسعة على امتداد العالم كله. وحينما استتب الأمر للجزيرة وتحلّق حول شاشتها العرب من المحيط إلى الخليج بدأت تمارس دورها السياسى الكبير والطموح والخطير.ولنعترف أنه يصعب وجود وسيلة إعلام محايدة بنسبة مائة فى المائة، فالقناة فى النهاية تتبع دولة قطر ويوجد فى أرضها مركز البث الرئيسي، وبالتالى فلا مفاجأة ولا دهشة أن تخدم قناة الجزيرة السياسة القطرية.الدهشة أن الجزيرة ما زالت تقدم نفسها على أنها قناة الرأى والرأى الآخر، وهو أمر لا يكفى فيه مجرد تكرار الشعار فبوسعك أن تتظاهر بتقديم الرأى الآخر مع أنك قدتقدمه ناقصاً أو مشوّهاً فكأنك تصادره أوتحرّض عليه. والمشكلة أن التوظيف السياسى لقناة الجزيرة بدأ يطغى على المعايير المهنية فى الكثير من تغطياتها الإعلامية لا سيّما حينما يتعلق الأمر بمصر، وهذا ليس جديداً بل هو سابق حتى على عام 2011.

من حقى وقد زرت قطر مراراً وتفاعلت مع حسها القومى العروبى خلال مشاركتى فى بعض مبادراتها الثقافية ولى فيها أصدقاء أعزاء أن أعتب بل وأنتقد الأداء المهنى لقناة الجزيرة الذى تجلّى بشكل خاص ومحيّر فى قضية سد النهضة. فالإخوة فى القناة قطريين وعرباً ومصريين أيضاً لم يفرقوا فى التغطية الإعلامية للسد الإثيوبى بين الخط السياسى للقناة وبين قضية وجود تهم الشعب المصرى كله، والأمر نفسه ملحوظ فى قضايا أخرى تتعلق بالمصالح العليا لمصر، وكان يُفترض بالتالى أن تتجاوز الخلافات السياسية العابرة بين مصر وقطر. أقول عابرة لأننى أومن إيماناً داخلياً عميقاً، وعن إدراك عقلى أيضاً، أنه لن يصح يوماً إلا الصحيح وسيتجاوز العرب خلافاتهم لأن هناك منطقاً للأمور لا بد أن يستقيم فى نهاية المطاف مهما اختلّ زمناّ طال أم قصر. ما زال الإخوة فى قناة الجزيرة ينظرون إلى قضايا تمس صلب الأمن القومى المصرى من منظور الخلاف السياسى مع مصر، وقضايا الأمن القومى هى قضايا لصيقة بشعب مصر كله والمصالح المصرية العليا وليست قضايا ابتدعتها الحكومة المصرية.

ولديّ أمثلة محدّدة بشأن التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة فى قضية سد النهضة الإثيوبي. ما معنى مثلاً أن تستضيف الجزيرة خلف لافتة محلل سياسى إثيوبى شخصاً من أديس أبابا يتحدث اللغة العربية بطلاقة لافتة فى قضية السد دون أن يصدر عنه ما يدل على أى تحليل سياسى أو علمى أو اقتصادى أو يرد على اعتراضات الطرف الآخر، بل يتكلم الرجل على مدى أكثر من أسبوعين وكأنه متحدث رسمى للحكومة الإثيوبية وليس كمحلل سياسى كما تقدمه قناة الجزيرة؟! هل فات على الإخوة فى القناة ذلك وهم يعرفون بالتأكيد الفارق بين بيانات المتحدثين الرسميين وبين التحليلات السياسية أو الفنية للخبراء؟وفى مقابل هذا المتحدث الرسمى الإثيوبى الذى تخفيه الجزيرة بقناع المحلل السياسى تحرص القناة على اختيار متحدثين آخرين يتكرر ظهورهم كثيراً لتمثيل وجهة النظر المصرية، ولا يخلو اختيارهم أحياناً بالنظر لمستوى الندية فى الحوار من دهاء واضح! وهكذا أصبح دأب الإخوة فى قناة الجزيرة أنهم إذا ما أرادوا فى قضية ما توظيف الحوار لخطهم السياسى أتوا بأضعف المتحاورين للدفاع عن الرأى الذى يخالف توجههم مقابل الحرص الشديد فى اختيار خبراء ومحللين ملمين جيداً بموضوع الحوار لتمثيل الرأى الموافق لهم، وهم فى الواقع يعرفون سلفاً وقبل إجراء الحوار من يؤيد خطهم السياسى ومن يخالفه. والطريف لدى كثير من الإخوة فى الجزيرة أنه إذا ما فاجأهم متحدث بما لا يتوقعونه من حجة قوية تناهض خطهم السياسى «فى القضية الليبية مثلاً» أو فى موضوع آخر لا يستهويهم سارعوا إلى كتم العبارة فى حلقه وتوجيه دفة الحديث بسرعة للطرف الآخر. وهم للحق بارعون ماكرون فى تلك اللعبة! أما عن التركيز بشكل ملح ومتكرر على وقائع وأخبار بعينها مقابل تجاهل أخرى أو التعتيم عليها فيكاد يصبح أداء مهنياً شائعاً فى الفترة الأخيرة، وهو يشبه ما نقول عنه بلغة القانون أنه «تزوير بالترك». من العجيب مثلاً أن الإخوة فى الجزيرة يغطون قضية السد الإثيوبى بشكل اجتزائى مريب مع أننى لا أشك لحظة واحدة فى أن كلاً منهم يدرك عن يقين مغالطات الجانب الإثيوبى ومحاولاته التى أصبحت مكشوفة للعالم كله فى الإضرار بمصر ومحاصرتها على المدى البعيد. وإذا كانت الجزيرة تعتبر أنها إعلام البحث عن الحقائق، فهل حاولت أن تفتح يوماً ملف الاستثمارات القطرية والخليجية فى إثيوبيا وارتباطها بقضية السد؟ هذا ملف ما كان يجدر أن تتجاهله قناة طالما تباهت بالحديث عن أن «ما خفى كان أعظم». والاستثمارات والمعونات القطرية المتدفقة على إثيوبيا وغير إثيوبيا من دول تعادى مصر جهاراً نهاراً ليست سوى المخبوء الأخطر مما يبدو على السطح والظاهر.

يقوم الإخوة فى قناة الجزيرة بتوزيع الأدوار بحسب الرأى الذى يودون إعلاءه والترويج له، وهذا ما يحدث بالضبط فى قضية سد النهضة، وفى القضية الليبية لأن أكثر ما يشغلهم هو التربص بسياسة مصر الخارجية والتشكيك فيها. وقد تجلّى ذلك فى الفترة الأخيرة فى محاولة إظهار تخاذل الحكومة المصرية فى الدفاع عن المصالح المائية للشعب المصرى فى الوقت الذى تخوض فيه الدولة المصرية بكل مؤسساتها باقتدار وكفاءة وغيرة وطنية مواجهة تفاوضية ودبلوماسية شاقة مع طرف إثيوبى متملص ومغالط ومراوغ وسيئ النية وخارج على القانون، ونجحت فى إرغامه على التفاوض بمشاركة دولية ظل يرفضها بعناد واستكبار منذ العام 2015. وبدلاً من أن تغطى الجزيرة بموضوعية ومهنية هذه المواجهة المصرية للدفاع عن حياة المصريين ومياههم فإنها تفاجئنا وهى تلوك بشماتة لا تليق اتهام مصر بالتدخل فى ليبيا على حساب إهمالها الدفاع عن حقوق المصريين المائية! أى شماتة وأى افتراء وأى خلط للأوراق وأى لدد فى الخصومة السياسية يا إخوة العرب فى قناة الجزيرة؟!

لست أود ولا أملك التعميم بشأن توظيف المهنى لحساب السياسى فى عموم قناة الجزيرة لأن صحفياً قديراً مثل السيد عبد الرحيم فقرا مراسل الجزيرة فى واشنطن يمثل نموذجاً للأداء المهنى الموضوعي. فالرجل يدير الحوار بمهنية عالية وحياد ملحوظ بين من يختارهم من متحدثين يمثلون شتى المواقف والتيارات السياسية والفكرية فى القضية التى يناقشها مساء كل يوم جمعة. ولعلّ الفارق بين إدارة النقاش وتوظيفه السياسى هو جوهر إشكالية قناة الجزيرة التى أصبحت رأس الحربة فى المشروع السياسى لدولة قطر. وبصرف النظر عن موقف الجزيرة من السد الإثيوبى أو القضية الليبية فمن حق قطر أن يكون لها مشروعها السياسى كما من حق السعودية أو الإمارات أو مصر أو تونس. لكن تبقى فطنة مصر التاريخية أنها لم تخلط يوماً بين محاور مشروعها السياسى أو خلافاتها العربية الطارئة وبين وعيها الدائم المتجذّر والمتجدد بالأمن القومى العربى بحيث أصبح هو النواة الصلبة لسياستها الخارجية وما عدا ذلك من التفاصيل. أما الإخوة فى قطر فهم فى علاقاتهم وتحالفاتهم مع القوى الإقليمية غير العربية يحيروننا فى خلطهم بين التكتيكى والاستراتيجي، بين المؤقت والدائم، بين التحالفات الطارئة والمصائر المشتركة، بين وحدة الجغرافيا والتاريخ والدم واللسان وبين آلاف الأميال والذكريات الاستعمارية المؤلمة التى تفصل عن الأستانة. وقناة الجزيرة تسهم فى تعميق ذلك بدلاً من تصويبه. والإعلام ليس مهنة للحكى والنميمة، إنه مهنة التنوير بالأساس.


لمزيد من مقالات د. سليمان عبدالمنعم

رابط دائم: