رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

لم أجد «مزلاج باب».. يغلق من السحاب إلى التراب!

سألتنى المذيعة العربية الأروبة وهى قارئة جيدة وتتكلم العربية كواحدة من روادها كأنما هى حفيدة عمنا الجاحظ أو بديع الزمان الهمزانى فى زمانهما: ماذا كنت تقرأ يا فتى الفتيان فى شبابك؟ قلت لها: دعينى أصحبك قبل أن أجيبك عن سؤالك.. إلى زيارة قمت بها فى زمان مضى وولى إلى دار عمنا وتاج رأسنا الشاعر والخطاط السودانى الأصيل الذى اسمه محمد الفيتورى.. حيث عاش فترة فى المغرب الشقيق. وصاحبنا محمد الفيتورى هذا.. ليس شاعرا فقط.. ولكنه مثقف عربى أصيل.

ومحمد الفيتورى للحق أبدع بكلماته أروع اللوحات ولو كره الكارهون وتمطع الحاسدون.. وما أكثرهم فى وطننا العربى الذى يمتد ثراه من الخليج العربى شرقا حتى الشط الغربى على ضفاف المحيط الأطلسى فى دولة المغرب الشقيق.. حيث دار عمنا الذى اسمه محمد الفيتورى..

وهو للحق شاعر مزج الشعر بالخط ويرسم الحروف بالكلمات التى تحكى وتقول وتتكلم وتغنى وترقص وقد تبكى حين يحين وقت البكاء.. وما أكثر ما يبكى بضم الياء ـ.. وما تدمع له العيون فى ماضينا وحاضرنا العربى الآن.. ويكفى ملف القضية الفلسطينية التى يريد الصهاينة الآن غير هيابين أو خائفين أن يغتصبوا آخر قطعة من أرض فلسطين فى غور الأردن الآن..

وعندما سألناه: كيف تهتدى نحن إلى دارك على شاطئ المحيط الأطلسى دون دليل يقودنا ودون عنوان مكتوب؟

قال بصوته الهادر: «سوف تعرفونها وسوف تصلون إليها حتما.. فأنا ليس لى عنوان.. لاننى حتى هذه اللحظة لم أجد مزلاج باب.. يغلق من السحاب إلى التراب»!

صفقت وحدى للعبارة الأصيلة وقلت له: يعنى عاوز تقول ياعمنا وتاج راسنا: إن أرض الله واسعة.. والله لم يفصل بين مكان وآخر ودار ودار بستار أو مزلاج يمتد من السماء إلى الأرض..

يعنى عاوز تقول كده بالبلدى: أن أرض الله واسعة.. لا يفصل بينها شىء مثل رحمته التى وسعت كل شىء.. وحكمته التى تسع كل شيء.. وجميل عدله ورائع صبره وسعة صدره الذى يتسع لهموم خلق الله.. كل الخلق فى كل ربوع الدنيا!

****

هى تسألنى: وهل وجدت دار صديقك ورفيق دربك هذا فى بديع كلماته والشعر والخط وفنون الكتابة بحروف عربية تنطق وتقول؟

قلت لها: كما قال هو أنه لا يوجد مزلاج باب يغلق من السماء إلى التراب.. وصلنا إلى دار عمنا الشاعر والكاتب والخطاط المبدع محمد الفيتورى فى مدينة المغرب التى يعرفها الجميع.. وجلسنا داخل رحابها سويعات زمان لا تنسى.. صحبنا خلالها عمنا وتاج رأسنا فنان الخط العربى فى مصر كلها والذى اسمه محمد العتر قبل أن يغادرنا بجسده إلى العالم الآخر..

ولأنه للحق كان فنان الخط العربى الأول فى عالمنا العربى باعتراف كل من أمسك بالقلم وخط خطا عربيا على الحائط أو على الورق فى زماننا هذا.. ويكفى أنه رسم وخطط وجهز «ماكيت» أعظم مجلة أطفال فى عالمنا العربى حتى يومنا هذا.. باعتراف كل من خط بقلمه أو رسم بريشته لوحة فى مجلات الأطفال.. وكان له الفضل فى أنه كانت لمجلة علاء الدين التى اصدرتها «الأهرام» قبل ربع قرن.. السيادة والريادة.. ومازالت.. فى عالم مجلات الأطفال فى عالمنا العربى حتى كتابة هذه السطور.. ومن عنده قول آخر.. فعليه أن يتقِدم إلينا بمبِرراته.. وادعوا معى بالشفاء لرئيس تحريرها الجديد العزيز حسين الزناتى..!

****

يوقظنى من سرحانى الطويل حول حقيقة فى هذا الباب الذى يغلق من السحاب إلى التراب سؤال المذيعة العربية اللبقة:.. دعنى أسالك ماذا صنع قلمك؟.. وما الذى فجر مواهبك الأدبية يا ترى فى شبابك منذ أن اكتشف مواهبك أستاذك ومدرسك الشاعر عبدالعليم عيسي؟

قلت: القراءة ولاشىء غير القراءة.. خصوصا فى الإجازة الصيفية للمدارس ومدتها نحو أربعة أشهر.. واحسبى أنت.. كم شهرا يا ترى منذ سنة أولى ثانوى.. حتى سنة خامسة.. كل سنة إجازة أربعة أشهر؟

تقاطعنى هى بسؤلها: يعنى أربع إجازات تساوى 16 شهرا بحالها..

قلت: هذه الإجازات هى التى صنعتنى وزودتنى بمادة الحياة التى هى القراءة ولاشىء غير القراءة.. وكنت اقرأ فى الإجازة كتابا كل ليلة.. تحت وهج ونور لمبة جاز نمرة عشرة!

تقاطعنى: يعنى ايه بقى وحياتك لمبة نمرة عشرة دى؟

قلت: يعنى لمبة تضاء بالجاز.. حيث لم يكن فى العزبة الجديدة كهرباء، حيث كان بيتنا الذى ورثته أمى عن أمها فى بلدتنا القناطر الخيرية مقاما على أرض جديدة لم تدخلها الكهرباء بعد.!

تسألنى: ومن أين لك بكل هذه الكتب التى قرأتها فى صباك؟

وجوابى: من مكتبة مدرستى القناطر الخيرية التى كانت أيامها ـ ككل مدارس مصر ـ تضم فوق رفوفها أعظم الكتب الأدبية وأمهات الكتب العربية.. وأيامها قرأت كتبا لها العجب!

أعرف جيدا أنكم معشر القراء مشتاقون للغاية لكى تعرفوا ماذا قرأت فى صباى؟

وما الذى جعل قلمى ثريا وشجنى شجيا؟

تلك للحق كلمات عمنا وتاج رأسنا ابن المقفع نفسه وهو المؤلف الذى شدنى إلى سماه، فهو الكاتب الذى أحاطنى ببردة فكره فى ليالى السقم والسهر والسهاد؟..

ولكن من هو الكاتب الذى صنع قلمى من نفحات فكره فى سنوات تفتحى وصباى؟..

ومن هو الذى دعانى إلى السباحة فى بحره وأنا واقف وحدى على الشط؟

وجوابى: ياسيدتى فقد قرأت فى سنوات صباى الأولى وتفتحى إلى عالم الفكر والأدب ما يطلقون عليه أمهات الكتب.. وخدى عندك: مقامات بديع الزمان الهمزانى + الأغانى لعمنا أبوالفرج الاصفهانى + العقد الفريد لابن عبدربه + عيون الأدب لابن قتيبة + بيت الدمية لابسن+ الأم للأديب الإنجليزى الشهير سومرست موم ـ هذه قرأتها بخمسة قروش ثمن نسخة من روايات الهلال أيام كانوا يترجمون روائع الأدب الإنجليزى!

المذيعة الأروبة تسألنى: طيب والباقى من أين قرأته؟

قلت: سأبوح لك بالسر.. كان أمين مكتبة مدرسة القناطر الخيرية يسكن فى الشارع المجاور لشارعنا فى القناطر.. وكان يحمل إلينا الكتب التى نريدها طبعا من وراء حضرة الناظر.. ثم يعيدها إلى مكانها صباح السبت.. وكان على أيامى يوما دراسيا وليس كما هو الآن: إجازة مع يوم الجمعة.. وكنا نعطى عددا من تلاميذ المدرسة هذه الكتب لكى ينسخوها فى كشاكيل بخط اليد.. أو على الآلة الكاتبة بتاعة زمان ولم يكن الكمبيوتر قد ظهر بعد.. وكان ثمن نسخ الصفحة الواحدة مليما واحدا وهو عملة لا يعرفها أولادنا الآن.. والقرش كان يساوى عشرة مليمات.. يعنى مختصر القول يعود عمنا سكرتير المدرسة بالكتب إلى المكتبة يوم السبت فى نفس مكان المكتبة بعد نسخها على الورق.. الصفحة بمليم.. يعنى المائة صفحة تساوى: مائة مليم يعنى عشرة قروش!

تقاطعنى: يعنى حضرتك وأنت لسه تلميذ صغير قرأت أمهات الكاتب منسوخة على الورق بخط اليد؟

قلت لها: هذا صحيح تماما!

تعود تسألنى: وأين هى هذه أمهات الكتب المنسوخة الآن؟

قلت لها: لا أعرف عنها شيئا الآن .. ولكن لقد علمت فيما بعد انهم ربما اشعلوا بها بعد رحيلى من القناطر أفران العيش والفطائر وكعك العيد وهم لا يعرفون أو حتى كانوا يعرفون إنها كنوز المعرفة والأدب والفكر عبر الزمان كله.. هكذا قرأت.. وهكذا تعلمت!{

----------------------------------------------

 هذه الإجازات المصيفية هى التى صنعتنى وزودتنى بمادة الحياة التى اسمها القراءة ولاشىء غير القراءة.. حتى أننى وكنت اقرأ فى الإجازة كتابا كل ليلة.. تحت وهج ونور لمبة جاز نمرة عشرة!

Email:[email protected]

Email:[email protected]
لمزيد من مقالات عزت السعدني

رابط دائم: