رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الحيلة لدفع الأحزان

تفسير ظواهر الطبيعة استنادا إلي العقل وحده كان هو علامة بداية الفلسفة. وجاءت هذه البداية متأخرة  كثيراً. فالإنسان منذ وجوده علي سطح الأرض لم يكف عن التساؤل بشأن ما يراه من ظواهر، لكنه كان غالباً يلجأ إلي افتراض كائنات خفية وقوي خارقة خلف هذه الظواهر. العقل في نظر الفلسفة هو وحده القادر على كشف الأسباب الحقيقية ولهذا اعتبر الفلاسفة الأوائل أن وظيفة العقل هي البحث عن الحقيقة. ثم جاء فلاسفة آخرون يرون أن اكتشاف الحقيقة مسألة ثانوية والوظيفة الأولي للعقل، في نظرهم، هي تزويد الإنسان بمفهوم عن العالم يجعله يعيش سعيدا أو علي الأقل هادئ البال. فالهدف من استخدام العقل هو أن يتجنب الإنسان قدر الإمكان القلق والحزن والخوف. ولهذا عرّف أبيقور الفلسفة بأنها طب النفوس.

ويحق لنا هنا أن نتساءل هل مهمة العقل هي البحث عن الحقيقة آم البحث عن السعادة؟ أراد أرسطو أن يخرج من المعضلة حينما عرفّ السعادة بأنها معرفة الحقيقة. علي أي حال لا يمكننا أن نصنف الفلاسفة عبر تاريخ الفلسفة الطويل إلي معسكرين: أنصار الحقيقة، وأنصار السعادة. فكل فيلسوف اهتم بالأمرين معاً بصورة أو بأخري.

أول الفلاسفة وهو الكندي (185-256هـ) له رسالة بعنوان الحيلة لدفع الأحزان. يري أن الأحزان آلام تصيب النفس ويستحسن التخلص منها، ولكن كل ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء، فينبغي إذن أن نبين ما الحزن وأسبابه. ويعرّف الحزن بأنه ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات. فالإنسان يحزن لأنه كان يمتلك شيئاً ثم فقده أو يأمل في الحصول علي شيء ولم ينله بعد. وتقوم استراتيجية الكندي في أن يبين للقارئ أن الحزن في كلا الوضعين موقف غير عقلاني. فالأشياء تنتمي إلي عالم الكون والفساد ولذا فهي بطبعها زائلة، وبالتالي طلب دوامها وثباتها يخالف الطبع، فنحن نطلب لها سمة ليست من طبعها وهذا عبث وتناقض. وليس عيبا أن نأمل في الحصول علي أشياء إلا أننا لا ندري متي سيتم لنا اقتناؤها. لكننا في العادة نحوّل فترة ترقب الحصول إلي فترة حزن، وحينما نفعل ذلك نرتكب حماقة كبيرة. وعلينا أن نعتدل فلا نطلب إلا ما كان مهيأ ولا نأسي علي فائتة. ويحكي لنا الكندي عن حكمة سقراط الذي كان يحب ألا يقتني شيئا سوف يحزن عليه لو فقده، كما يحكي عن الامبراطور نيرون الذي تلقي هدية رائعة هي قبة من الكرستال فرح بها كثيرا، ولكن صديقه الفيلسوف انزعج لأن فرحته تبين أنه سوف يحزن كثيرا حين يفقدها وهذا ما حدث. ولهذا يقول لنا الكندي: ينبغي اذا لم يكن ما نريد أن نريد ما يكون، وألا نختار دوام الحزن علي دوام السرور. وإن من أحزنه فوت الفائتات وعدم المعدومات لم ينصرم حزنه أبداً. لأنه في كل حال من مدته يفقد محبوبا ويفوته مطلوب.

لا ينفي الكندي وجود الأحزان تماما، ولكنه يثق في أن التفكير العقلاني سوف يزيل من حياتنا أحزاناً كثيرة لا مبرر لها. ويدفع القارئ إلي هذا السبيل، فألم النفساني لا يحتاج إلا إلي قوة العزم.  وحينما يجد الإنسان نفسه أسير حالة حزن شديد فعليه أن يجهد نفسه في البحث عن السلوى، سواء في حياته الماضية أو في النظر لمصائب الآخرين الذين تجاوزوا الحزن وتمكنوا من الاستمرار في الحياة. ويحكي في بيان ذلك رسالة الإسكندر إلي أمه وهو علي فراش الموت يخبرها بأنه سيموت ويطلب منها ان تقيم له مأتما يليق بملك عظيم، وطلب منها أن تبني مدينة وترسل المنادين لدعوة الناس من القارات الثلاث آسيا وأوروبا وإفريقيا للحضور في يوم سرور مليء بالمأكولات والمشروبات علي شرط ألا يأتي إلي العزاء أي شخص حدثت في حياته مصيبة.وحينما جاء اليوم المنذور انتظرت أم الاسكندر ولم يأت أحد. وقال لها معاونوها أن هذا حدث لأنك أمرت ألا يأتي إلي هذا العزاء من ألمت به مصيبة. فقالت الأم هذا درس أخير من ابني.أراد أن يعزيني بأن يبين لي أنه لا يوجد انسان لم تحدث في حياته مصيبة. وأي عزاء أكبر من ذلك. 

حينما سعي الكندي إلي أن يخلص القارئ من وطأة الأحزان التي تسمم الوجود لم يلجأ إلي الوعظ التقليدي المباشر الذي يعتمد علي الزجر والوعيد ولا تلك الرطانة الرائجة اليوم عن الطاقة الإيجابية، وإنما استخدم أسلوب التحليل الفلسفي الصبور والذي يثق في النهاية في عقل الإنسان. وتدل كلمة الحيلة في العنوان علي أن الأمر يتطلب قدرا من الحصافة.


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: