لكل عصر حراسه الذين يدافعون عن القواعد ويتمسكون بالمباديء والجذور ويحرصون على تسمية الأشياء بأسمائها، بين المجددين والمحافظين، يدور فلك معظم المعارك الأدبية، حيث عنفوان المغامرة والرغبة فى التجريب والانضمام للموجة الجديدة التى تنتشر بآلية العدوى من قبل الأجيال الشابة، وسرعان ما يبدأ قلق الرواد وخوفهم من خرق القواعد، بل وكسرها.. وعندما تتكسر القواعد ماذا يفعل المصلحون؟ كما يقول الكتاب المقدس.
شهدت الساحة الأدبية فى مصر معارك شهيرة كان العقاد هو القاسم المشترك فيها مع كل من: «طه حسين وأحمد شوقى وصادق الرافعى وشاعرنا /أحمد عبدالمعطى حجازى»، ومعظم هذه المعارك وغيرها كانت بمنزلة المحراث الذى قلب التربة الأدبية ومنحها الكثير من الحيوية والخصوبة والحراك والتنوع وتعدد المدارس الفكرية.. تعد هذه الخلافات بصرف النظر عن مواقف أصحابها ودرجة ميل الشخص لرأى عن آخر مرجعا فكريا قيما فى قوة الحجة ونصاعتها وتنوع أساليب اقناع كل فريق والطرح العميق للقضايا المثارة، والتى أسهمت فى خلخلة المسلمات التى تجاوزها العصر، من رماد مازال ساخنا..نعرض لخلافات شاعرنا المتوهج جدلا وشعرا، مع قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء كما سماها فى كتابه الصادر فى عام 2008 حيث نزع عنها رداء الشعر، محذرا من انتشارها ومحاولات تسييدها، كاشفا النقاب عن مثالبها وافتقارها إلى الوزن الذى اعتبره بعض روادها من الشكليات ولا يؤثر فى مضمونها، فهى تفتقر إلى الإيقاع وتخلو من الموسيقى التى هى أبرز شروط الشعر.. ونتيجة لأنها سلسة متدفقة بلا قواعد فقد أصبحت لقمة سائغة فى أيدى الأدعياء وكل من يتطلع لكى يسبق اسمه بلقب شاعر «أنتم الناس أيها الشعراء».
الراصد للمشهد الأدبى لن تخطئ عينه عن مضمون اللغة التى تكتب بها هذه القصيدة التى لا ينعتها حجازى شعرا، فاللغة التى تكتب بهاــ نتحدث عن القاعدة العامة تتسم بالتفكك والغرابة واختفاء المعنى.. ولم يكن حجازى قاسيا فى انتقاده، لكنه كان منصفا للكتابات الجيدة منها.. واحتفظ لنفسه بحق رفض السيئ منها واستبعاده من مكتبته..وقد أنصفها إلى حد بعيد فى نقده حيث لا وجود لصنعة متقنة، ولاصقل لمعنى.
يشيد حجازى بالنصوص الجيدة ويفسح أمامها المجال للنشر والتحقق، لكنه يشهر أمضى أسلحته فى رفض هذا النوع من الشعر: نظرا لضعف الحجج التى تبرر نسبته للشعر، فلم يخرج ناقد واحد بحجة مقنعة أو دليل دامغ يدافع بهما عن هذه القصيدة وهذا هو جوهرالمشكلة ولب القضية «عدم تسمية الأسماء بأسمائها».. فهى ليست شعرا ولا توجد حجة مضادة تدافع عن هذا الهجين.
استدعى موقف حجازى هذا، فترة هجوم العقاد عليه وعلى شعراء الشعر الحر «التفعيلة» حين رفض العقاد سفر حجازى وصلاح عبدالصبور إلى دمشق علم 1961 لحضور مهرجان الشعر، اعتراضا منه على «شعر التفعيلة» الذى كانا يكتبانه، ولا يكتبان الشعر العمود يشعر البحور التى وصفها البعض بالنمطية والايقاع الرتيب! كما كان العقاد يحول أى قصيدة ليست عمودية إلى لجنة النثر.. هى معارك أدبية يتحدد مجالها غالبا بمدى الاقتراب أو الابتعاد عن الجذور والأصول والينابيع والمواءمة مع إيقاع العصر..فكل مجدد يسعى غالبا لاستكمال تجربته وحفرها رأسيا حتى تنضج بالتكرار ويكتمل النموذج الذى سيثور عليه الآخرون لاحقا، حين يصبح المجدد «محافظا» وتلك هى الجدلية الثابتة فى قضية التجديد على عمومها..لذلك تتجلى أهمية الاستعانة بدماء جديدة وخلطها واتكائها على التجاربالسابقة .. فالتجديد يكون أحيانا بقتل القديم بحثا.
معركة حجازى مع الشعر خرج منها ظافرا:«بقدرته الفائقة على إقامة جدلية حية مع الموروث الشعرى مع الانفتاح المستمر على آفاق المغامرة والتجاوز وكان لديه ولع بمنازلة فرسان الشعر، اثباتا للقدرة على الاختلاف، فحاكى سينية البحترى وشوقى ونونية الكروان فى قصائده المحملة بدلالات تتسع للذاتى والوجودى والقومى» على حد تعبير فاروق شوشة.
ويتجلى نبل حجازى مع حفظ الألقاب فى إقراره بغضب الشباب حين كتب قصيدة فى الأهرام ردا على موقف العقاد وقال عنها: لا أحب أن أقولها أو أتذكرها:
من أى بحر عصى تطلبه إن كنت تبكى عليه نحن نكتبه
تعيش فى عصرنا ضيفا وتشتمنا إنا بإيقاعه نشدو ونطربه
لام حجازى نفسه ورد عليها العقاد بقوله: بل هم الذين يعيشون عصر العقاد وبكل أريحية يؤكد حجازى ذلك وأن العكس صحيح أيضا لأنهم كانوا أبناء هذا العصر فى الخمسينيات والستينيات شهد تألقهم والعقاد كان فى خريف العمر لكنه كان بانيا ومؤسسا من مؤسسين هذا العصر وهو الذى قدم لهم ما قدم لكى يصيروا ما هم عليه، ولم يكن حجازى وأقرانه يستطيعون أن يكونوا أنفسهم بدون ما قدمه.
يحسب لشاعرنا المبدع أنه صمد فى مواجهة العقاد، إيمانا بموهبته التى تجسدت فى منجزه الشعرى، وما حققه من ريادة ونجاح، أمام من كان ينتقد شعر شوقى ويشير لافتقاره لوحدة القصيدة..لو عاش العقاد ربما غير رأيه فى الشعر الحر، لكن المؤكد،أنه كان سينضم لحجازى فى قضية «قصيدة النثر».
رابط دائم: