رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الروابط الاجتماعية فى زمن كورونا

بعد خمسة أشهر من تفشى جائحة كورونا، وبعد أكثر من شهرين من الحجر الصحي، يبدو أن العالم بدأ يتجه للمرحلة الثانية فى التعامل مع الجائحة، وهى مرحلة التعايش، التى بدأت فعلا بعودة الحياة اليومية، فى بعض الدول الأوروبية (ألمانيا واسبانيا) والولايات الامريكية (ولاية فلوريدا)، مع فيروس بلا لقاح .فالإنسان مطالب اليوم بالتعايش ولفترة غير معروفة مع هذا الفيروس، الذى بعد موجته الفتاكة الأولي، سيصبح موسميا ومستمر التواجد داخل الأجسام البشرية، خاصة ان هناك من الأشخاص من يحمل الفيروس ولكن لا تظهر عليه أى عوارض صحية، مما يحوله الى حاضنة للفيروس ويمكن ان ينقله فى أى وقت وفى أى مكان. خلال الأسابيع القليلة القادمة، سوف تعود الحياة تدريجيا الى نبضها، ولو بشكل بطيء. وسوف تعود الحرية اليومية فى التنقل، والتى لم يكن أحد يبالى بها قبل ان يفرض كوفيد 19 شروطه على البشرية وأولها منع الحركة والالتزام بالبيوت، لكن هذه الحرية لن تكون مطلقة ولن تكون بنفس الشكل الذى كانت عليه قبل الجائحة. ستبقى قيود التباعد الاجتماعى مفروضة لوقت طويل، وسوف يتغير بروتوكول السلام وطقوس التحية التى عمرت لقرون، وسوف تفرض قوانين وتعاليم جديدة سواء على مستوى الصحة الشخصية او الوقاية الجماعية، وهو ما قامت به بعض الدول من خلال فرض ارتداء الكمامات الصحية.

فرض علينا فيروس كورونا المستجد عزلة ونحن فى الحجر وعزلة أخرى لن تنتهى بعد رفعه. وفرض علينا إعادة تعلم الأبجديات البسيطة والبدائية والأولية لحركتنا اليومية. كما أنه جعلنا نشعر بأن المخاطر المحدقة بالمجتمع حقيقية، وبأن الكثير من المفاهيم، التى كنا نعتبرها محاطة بضمانات أبدية، سيشعر الإنسان مستقبلا بالقلق إزاءها. إن كل الإجراءات التى واكبت ظهور الموجة الأولى من الجائحة، او تلك التى ستلى مرحلة رفع الحجر الصحى التدريجى وربما الكلي، سوف تتعارض مع المبادئ الأساسية لحقوق الانسان، لكنها تجد، فى المقابل، مسوغات أخلاقية وقيما إنسانية من أجل تمريرها وقبولها لدى المواطنين، ومنها حفظ الحياة والصحة، والمسئولية الأخلاقية تجاه النفس والمجتمع، ومسئولية الدولة تجاه المجتمع، ومسئولية المجتمع تجاه سلامة جميع افراده. وتغلب النزعة المجتمعية على الفردية حيث تزايد الشعور بأن مصير الفرد مرتبط بمصير المجتمع والعكس صحيح، وحيث أصبح الحس التضامنى هو أحد معايير التماسك المجتمعي، وحيث بات التكيف مع الإجراءات الوقائية، مهما بلغت درجة تقييدها للحريات الفردية، هو تعبير عن أخلاقيات المواطنة.

مثلما أعادت جائحة كورونا الانسان الى كينونته وإعادة إحياء الروابط الأسرية التى طالما تم إهمالها أو تبخيسها، فهى رفعت أيضا من أهمية القيم الإنسانية التى تركز على العمل الجماعى والتعاون المتبادل وعلى تقدير قيمة الإنسان والمحافظة على حياته بقدر الإمكان ووقايته من الأوبئة والأمراض المفاجئة. كما قامت بتعزيز العلاقات الاجتماعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وأعادت للمثقف والباحث مكانته المجتمعية من خلال اسهامه فى نشر ثقافة الوعى عبر خاصية المباشر، حيث لاحظنا كيف أسهم الدكتور والمفكر والمحلل النفسى وعالم الاجتماع وغيرهم فى بلورة لقاءات وندوات فى العالم الافتراضي، تعزيزا أولا من قرارات التباعد الاجتماعي، واجابة، ثانيا، عن تساؤلات المواطنين وهواجسهم بخصوص هذا الوباء وتأثيره على صحتهم الجسدية والنفسية وتداعياته على مختلف مناحى حياتهم.

بعد الخروج من هذه الأزمة، او على الأقل اجتياز مرحلة الصدمة التى واكبتها، ستجد الإنسانية نفسها أمام نقاش عميق وجدى حول المبادئ التى تقوم عليها الروابط الاجتماعية، وهل جائحة كورونا ساهمت فى تقوية هذه الروابط ام أنها على العكس قامت باضعافها. ما يدفع لهذا النقاش الحتمى هو امران: أولا، ما فرضته كورونا من تفكيك نموذج القرب الذى ظل سائرا لعقود والتواصل الاجتماعى الذى كان مخبوزا فى النظام العصبى للمجتمع، قبل ان تحل محله قواعد التباعد الاجتماعى والتى سوف تظل قائمة لوقت طويل. ثانيا، التناقض فى بعض السلوكيات التى أظهر عنها المجتمع. فمن ناحية، أبانت هذه الجائحة عن أهمية المشترك فى حياتنا المجتمعية، وأظهرت روح التضامن الذى رأينا صوره متجسدة فى التبرع فى صناديق الجائحة او تقديم المساعدات للفئات الهشة. لكنها مثلما أظهرت أحسن ما فى الانسان، فهى أظهرت، أيضا، أسوأ ما فيه، خاصة فى ظل التهافت على اقتناء المواد الاستهلاكية وتكديسها فى المنازل، واستغلال الظرفية لاحتكار بعض المواد والرفع فى الأسعار.

لقد تغيرت الكثير من الأشياء من حولنا، وهذه التغيرات سوف تجعل المجتمعات، بعد اجتياز هذه المحنة، تعيد ترتيب أولوياتها، وتقييم الروابط الاجتماعية التى تجمعها، واستحضار كل القيم الإنسانية وأخلاقيات المواطنة التى يجب ان تكون من أساسيات المجتمع وليس فقط خيارا مرحليا يتم اللجوء إليه كلما زاد الخطر او اشتدت الازمات.


لمزيد من مقالات وفاء صندى

رابط دائم: