رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ولا تَقْفُ مَا لَيْس لَكَ بِهِ علْمٌ

تداعت على ذهنى هذه الآية الكريمة عندما قرأت فى جريدة المصرى اليوم ما كتبه الدكتور زاهى حواس (الثلاثاء 28/4/ 2020)، وما كتبه الدكتور خالد منتصر فى جريدة الوطن (الثلاثاء 28/4/2020) فى الرد على الشيخ على جمعة فيما تحدث به عن أن النبى إدريس هوالذى بنى الأهرامات، وأن وجه تمثال أبى الهول هو وجه أوزوريس، وما يصاحب ذلك من كلام ما كان يليق بهذا الشيخ الجليل (الذى أُكِن له كل المحبة والتقدير)، أن يقوله أو يفتى به أو يتحدث فيما لا علاقة له به علميًّا أو تاريخيًّا. وقد استمعت إلى تصريحات الدكتورعلى جمعة تلك بالمصادفة، فاستغربتها وقلت لنفسى: ربما نسى الرجل فَرَوَى بعض المرويات التاريخية المكتوبة فى كتب التاريخ القديمة، ولكنى استدركت على نفسى بما تعارفنا عليه من تحذير طلابنا فى الجامعة من التمييز بين المرويات التى تدخل فى باب الإسرائيليات والمرويات التى هى أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة، واعتدنا تحذيرهم من النصوص التى تستبدل الخرافة بالتاريخ أو الفتوى بغير علم بالعلم المبنى على الحقائق أو الوثائق التى يمكن اختبار سلامتها بأدوات العلم الحديثة، سواء أكنا نتحدث عن أوراق بردى أو عن مخطوطات أو عن آثار، فقد تقدمت العلوم التطبيقية وما يرتبط بها تقدمًا مذهلًا بما يمكن أن يحدد لنا عُمر الأثر الحجرى أو تاريخ الوثيقة الخطية وزمن كتابتها، وهو أمر يعرفه علماء الآثار المختصـــون, مثل زاهى حواس, كل المعرفة. وقد سبق أن استعان هو بأدوات علمية تخترق بأشعتها الحجر المصمت بما يُعين على تحديد عُمر النقش أو زمن صنعه. وهذه أشياء معلومة ومعروفة لا يعرفها علماء الآثار فحسب، بل يعرفها علماء التحقيق الذين يشتغلون بالمخطوطات وتحقيقها بأنواعها المختلفة، سواء أكانت مخطوطات على أوراق البردى أو مخطوطات ورقية تعود كتابتها إلى قرون وقرون. وقد أصبح من اليسير الآن تحديد زمن كتابة المخطوط فى علوم التحقيق، وزمن كتابة الرَّق أو الأثر فى علوم الآثار وما أشبه. أما أن يأتى عالِم جليل صناعته الفقه ومراجعة كتب الأحاديث ومروياته، مما يحوى العر والدر،فيتحدث فيما لا علم له به، فهذا أمر مستبعد فى مجال العلوم العقلية، فضلًا عن العلوم الطبيعية. والحق أن علوم الآثار أصبحت من العلوم الحديثة التى لم تعد تعتمد على الإفتاء أو المرويات، وإنما على العلم التجريبى وأدواته القادرة على اختبار مسألتى الصحة التاريخية والسلامة الموضوعية فى مثل هذه الموضوعات. ولذلك لم يعد الحديث فى الآثار حديث خراف كما اعتاد القدماء، وإنما أصبح علمًا منضبطًا يتداخل والعلوم الطبيعية والتجريبية فى غير موضع. ولذلك فعندما يتحدث إلينا عالِم أثرى مثل الدكتور زاهى حواس نسمع عنه ونأخذ منه، اتساقًا مع تقاليد العلم الحديث التى نُعلِّمها لطلابنا فى الجامعة، ولا نخشى فى قولها أو تعليمنا إياها لومة لائم أو سطوة شيخ يفتى فيما لا يعرف بمرويات تمتلئ بها كتب التراث القديمة التى يختلط فيها الجد بالهزل، والحق بالباطل، والعربى بالعجمى، والإسرائيليات بغير الإسرائيليات، والعبرة بالتسلية.

هكذا نستمع باحترام إلى عالِم مثل زاهى حواس ونحترم علمه عندما يتحدث عن شكل الهرم، وتنوعاته البنائية، وتحولاته المعمارية فى مصر القديمة، كما نحترم أمثاله وأساتذته من علماء الآثار الذين جاءوا إلى مصرمن كل قارات العالم، لكى ينيروا تاريخ البشرية باكتشاف تاريخنا وحضارتنا القديمة. ولولا ذلك ما استطاع العالم الفرنسى شامبليون (1790 - 1832) أن يكتشف الأبجدية بأنواعها ولغاتها المكتوبة على حَجررشيد الذى اكتُشف أثناء الحملة الفرنسية على مصر. ولولا ذلك ما سمعنا عن استخدام علماء الآثار المحدثين, ومنهم زاهى حواس نفسه, لأنواع الإشعاعات الحديثة وعلوم الدنيا الأحدث للكشف عن حُجَر الدفن فى الأهرامات، أو تكوينات الصخر الذى يتكون منها جسد تمثال أبى الهول نفسه. أما عندما يعتمد الشيخ على جمعةعلى بعض المرويات التراثية التى يعرفها فى دوائر تخصصه المحدودة والقديمة فيقول لنا أن وجه أبى الهول قريب من وجه النبى إدريس أو ما أشبه ذلك، فإننا ينبغى أن نقول له الآية القرآنية: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...(سورة الإسراء/ الآية 36).

ونستطرد من ذلك إلى ضرورة أن نشرح للقراء الفارق الهائل ما بين العلم المدنى والعلم الدينى, فالعلم المدنى يعتمد على آلات وقياسات وأجهزة تحمل خلاصة مبدعة لأعظم ما وصلت إليه عقول العلماء الطبيعيين والتجريبيين فى العالم كله، والذين يمكن أن يتحكموا فى درجة الخطأ فى الاستنتاج أو فى سلامة النتائج ويقينيتها. أما أقوال أمثال الشيخ على جمعة، فهى أقوال مُرسلة تعتمد على مرويات تاريخية ينوشها الشك العقلى والتجريب المنهجى، فيُحيلها إلى لغو لا طائل منه. وهذا هو الفارق بين قول القُصّاص فى القرن الثانى إلى الرابع من الهجرة فى تفسير الوقائع التاريخية القديمة التى يشير إليها القصص الدينى، وذلك على النقيض من أقوال العلماء المحدثين ما بين القرن التاسع عشر والحادى والعشرين الميلاديينِ، فى علمهم المنضبط ونتائجه التى إن لم تكن تقارب اليقين، فهى أقرب إليه من إسرائيليات الطبرى أو الرازى أو كتب شروح الأحاديث. والحق أن الفصل الحاسم بين العلم الدينى والعلم المدنى قد تأخر كثيرًا فى مصـر، وأحد أسباب ذلك هو أننا لا نأخذ من العلــــــم الدينى إلا بما يقـــــــول السلفيـــــــون، وكـــــأن السلفـــــييـــــن هم أهل الثقة واليقين. وهذا هو نقيض العِلم بمعناه الحديث. وقد آن الآوان أن يراعى كل عالِم عِلمه ويفتى بما فيه، وأن يتباعد رجال الدين عن العلوم التى لا تقع فى دائرة اختصاصهم حتى على سبيل التخمين أو ترداد أقوال لا محل لها من الإعراب.


لمزيد من مقالات د. جابر عصفور

رابط دائم: