فى تراث الصوفية قصة تحكى عن فلاح يعيش على فطرته الأولى، وايمانه ويقينه بالله لا تشوبه شائبة، يعمل فى حقله بالقرب من نهر. وكان يصلى صلاته حين مر عليه جماعة من كبار المشايخ، وجدوا الرجل يصلى خطأ. فانتظروا حتى انتهى من صلاته وبدأوا يعلمونه الطريقة الصحيحة للصلاة، ثم تركوه وواصلوا رحلتهم بالمركب فى مياه النهر. وحدث أن نسى الرجل بعض ما قاله المشايخ له فجرى على الماء ليلحق بهم، فنظروا من المركب ووجدوا الرجل يجرى فوق الماء حتى وصل إليهم ليسألهم عن الطريقة الصحيحة للصلاة، فقالوا له فى نفس واحد: ابق على صلاتك وعبادتك كما تعرفها، فقد أوصلتك إلى ما لا نستطيع الوصول إليه بعلمنا.
وتلك كانت لحظة انكشاف الحقيقة لهؤلاء المشايخ الذى رأوا وأيقنوا أن علمهم الدينى لم يصل بهم إلى يقين الايمان الذى جعل هذا الرجل البسيط يمشى على ماء.
وهذا الرجل هو الصوفى الحق الذى وصفه مولانا جلال الدين الرومى بقوله: سكران دون خمر، شبعان دون طعام، مذهول، لا طعام ولا نعاس، ملك فى عباءة متواضعة، كنز فى ركام، لم يخلق أو يقد من الهواء، أو من الطين، ولا من النار أو الماء، فهو بحر بلا سواحل، يحوز مئات الأقمار ومئات السماوات ومئات الشموس.
وهو حكيم خلال الحق الكلى وليس عالما يتخذ علمه من الكتب.
بينما يقول عنه إدريس شاه صاحب كتاب «الصوفيون» ترجمة بيومى قنديل: الصوفى الكامل شخصية عظيمة،يتمتع بالسمو وعبر الحب والعمل والاتساق يصل إلى أعلى درجات الاستاذية درجة «القطب». فكل الأسرار تفتح مغاليقها أمامه، وترى كيانه كله وقد تشبع بالتألق السحرى ويكون هو الدليل والمسافر معا على طريق الجمال والحب والإدراك والقوة والتحقق اللانهائى، وهو الديدبان الساهر على حراسة خزائن الحكمة القديمة، وفاتح الطريق الذى يقود إلى اسمى الأسرار، وهو الصديق المحبوب الذى يسمو مجرد وجوده بنا، وهو الأمر الذى يدفع بمعنى جديد إلى قلب الروح الإنسانية.
والتصوف كما يقول صاحب التجليات الروحية فى الاسلام جوزيبى سكاتولين: مؤهل لأن يكون مجالا مفتوحا للتلاقى بين الحضارات والأديان.. العالمية والحالة الروحية فى الاسلام، أى التصوف، تجد موازيات عديدة فى حركات روحية مماثلة فى سائر الأديان العالمية. وهذا لأن كل دين منها يحتوى فى داخله على بعد روحى أو صوفى.
وقد أشار الكثير من الباحثين إلى أن هناك عددا وأفرادا من التشابهات المدهشة العجيبة بين التيارات الروحية المختلفة. فالتصوف الإسلامى لا يأتى يتيما فى تاريخ البشر، وإنما يأتى فى انسجام واسع وتناغم عجيب مع التيارات الروحية الدينية الأخرى.
وبذلك يكون التصوف هو المشترك بين جميع الأديان السماوية، وغير السماوية كالبوذية والزرداشتية فجميعها تلتقى مع الصوفية على قاعدة الزهد والإخلاص لخالق أسمى. وكذلك دعوتها للحب لكل شىء فى الوجود الشجر والحجر والبشر، بل إن النرفانا فى البوذية ليست إلا حالة الوجد أو الحلول كما هى فى التراث الصوفى الإسلامى.
فالتصوف هو روح الوجود الحق وسره الذى لا يصل إليه إلا قلة قليلة من البشر فى مختلف الأديان.
وكما يردد جلال الدين الرومى.
لو كان هناك عاشق حقيقى العشق فى العالم، أيها المسلمون، لكنته أنا.
لو كان هناك مؤمن حقيقى الايمان، أو ناسك مسيحى، لكنته أنا.
الخمر والساقى، حامل الكأس، والمداح على ربابة، والهارب، والموسيقى، الحيوية والشمعة والجرعة وبهجة السكر، هى أنا.
الملل والنحل الاثنتان والسبعون التى يعرفها العالم، لا وجود لها فى حقيقة الأمر: وإنى لأقسم بالذات العلية أن كل ملة وكل نحلة هى أنا.
الأرض والهواء والماء والنار، كلتا، اليدين والروح كذلك، ماهى إلا أنا.
الصدق والزيف، الخير والشر والسهل والصعب، من البداية إلى النهاية، والمعرفة والجهالة والزهد والتقوى والايمان هم أنا.
نار جهنم، وكن على ثقة، وسجونها التى تتقد ألسنتها، نعم، والفردوس وعدن والحور العين أنا. هذه الأرض بما عليها وتلك السماء بما فيها، الملائكة والجن والأنس أنا.
لمزيد من مقالات محسن عبد العزيز; رابط دائم: