عبارة في غاية الخطورة والأهمية لم يسبق لشيخ من شيوخ الأزهر الشريف أن قال مثلها منذ الإمام محمد عبده وهي: إن إحياء الخلافة من مقولات الإرهابيين، وهذه أول مرة يربط فيها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بين الجماعات الإرهابية الداعية إلي إحياء الخلافة والإرهاب ربطا عضويا، وفسر السبب في حديثه التليفزيوني يوم الجمعة قبل الماضية: الخلافة الإسلامية انتهت، كانت نظاما ممتازا، وكان يمكن تطبيقه في مراحل تاريخية معينة ولا يمكن تطبيقه الآن.
صحيح أن عبارات مثلها قيلت مئات المرات من كتاب ومفكرين وصحفيين وباحثين ورجال سياسة وشخصيات عامة، لكن أن يقولها شيخ الجامع الأزهر فهذا أمر مختلف، لأنه صادر عن عالم أزهري له ثقل كبير، ومعروف عنه دفاعه عن الإسلام وتراثه دفاعا قويا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يبدي رأيا دون تعمق مستندا فيه إلي معارفه التي لا يستطيع أحد أن يشكك في نزاهتها ومرجعياتها.
وقد سبق أن قال الدكتور أحمد الطيب في حديث له قبل سنوات إن الخلافة لم يرد بها نص في القرآن الكريم، ونحن أهل السنة نعتقد تمام الاعتقاد أن النبي ـ صلي الله عليه وسلم, ترك أمر الإمامة أو الخلافة للشوري واختيار المسلمين يحددون فيه ما يرونه، دون أن يحدد صورة معينة أمرنا به، قالها دون أن يربط وقتها بين الإرهاب والداعين إلي إحياء الخلافة.
المدهش أن الإمام الأكبر، دون أن يقصد، أنصف الشيخ علي عبد الرازق، الذي كتب دراسة بهذا المعني في عام 1925، تحت عنوان الإسلام وأصول الحكم، قال فيها إن القرآن والأحاديث النبوية لم يرد فيهما أي نص علي الخلافة نظاما ملزما لحكم المسلمين، وأن الخلافة باستثناء الخلفاء الثلاثة الأولين، أبو بكر وعمر وعثمان، لم تقم أبدا علي الإجماع، بل قامت بقوة السيف وعلي أسنة الرماح، وضرب علي عبد الرازق بخلافة بني أمية، دليلا علي وجهة نظره.
وبالرغم من أن حديث الإمام الأكبر كما قلت فيه إنصاف غير مقصود للشيخ علي عبدالرازق، إلا أنه لا يتفق تماما مع كتاب الإسلام وأصول الحكم، ويميل إلي أفكار العلامة القانوني الشهير الدكتور عبد الرزاق السنهوري في رسالة الدكتوراه التي كتبها بالفرنسية في عام 1926 باسم فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، والتي انتهي فيها السنهوري باشا إلي أن الظروف الآن لاتسمح باستعادة الخلافة، وأن البديل عصبة أمم إسلامية تشبه عصبة الأمم التي تشكلت عقب الحرب العالمية الأولي..لأن الإسلام دين ودولة. والعبارة الأخيرة عكس ما توصل إليه علي عبدالرازق في كتابه، فهو ناقش فكرة لم يطرحها أحد قبله: هل كان النبي محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ رسولا أم ملكا؟، وقال: حين مثل رجل أمام النبي فأخذته رعدة شديدة فقال له النبي: (هون عليك..فإني لست بملك ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة تأكل القديد بمكة)، أي كان نبيا مرسلا إلي العالم أجمع، ولو كان مقصده تأسيس دولة وحكومة سياسية لما اتجهت رسالته إلي الناس جميعا، فمن المستحيل أن تنتظم البشرية في حكومة واحدة، وحين مات النبي لم يعين بعده خليفة ولا حاكما ولم يحدد نظاما للشوري أو البيعة أو غيرها من أدوات الحكم. ورحل النبي عن دنيانا بعد أن أكمل الرسالة كما أمره الله، ومن ثم فمن يأتي بعده ليس خلفا له في الرسالة، ولا في الزعامة الدينية، وكانت زعامة مدنية سياسية تشكلت وفق أحداث سقيفة بني ساعدة، التي اختلف فيها الانصار والمهاجرون حول من منهم الأمراء ومن منهم الوزراء، وكان نقاشا سياسيا بحتا لا علاقة له بالدين، فالذين رفضوا مبايعة أبي بكر الصديق لم يعتبروا كفارا، ألم تعترض عليه فاطمة بنت الرسول علنا؟
وبمجرد ظهور الكتاب القنبلة اجتمعت هيئة كبار العلماء بالأزهر ووجهت للشيخ علي عبدالرازق سبعة اتهامات خطيرة، وأصدرت حكمها بتجريده من العالمية، (لأنه أتي بأمور تخالف الدين والقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة). وترتب علي هذا الحكم محو اسمه من السجلات وطرده من كل وظيفة وقطع رواتبه في أي جهة كانت، وعدم أهليته بأي وظيفة دينية أو غير دينية.
من هنا تأتي أهمية عبارات الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، لأنها أيضا كشفت أسباب ما جري لنا من عنف وإرهاب لأكثر من 80 سنة، من كل الجماعات الدينية التي تمسكت بقرار هيئة كبار العلماء، وهي تدين كتاب الإسلام وأصول الحكم وصاحبه، وتقول إن حكم الخلفاء الراشدين كان حكما دينيا وليس مدنيا، وأن الصحابة أجمعوا علي وجوب تنصيب الإمام، فكان أولها جماعة الإخوان التي تأسست في عام 1928، أي بعد سقوط الخلافة العثمانية بأربع سنوات، وقال مؤسسها حسن البنا في إحدي رسائله: «ونحن الآن وقد اشتدّ ساعد الدعوة وصلب عودها وأصبحت تستطيع أن توجِّه ولا توجَّه وأن تؤثِّر ولا تتأثر، نهيب بالكبراء والأعيان والهيئات والأحزاب أن ينضموا إلينا، وأن يسلكوا سبيلنا وأن يعملوا معنا وأن يتركوا هذه المظاهر الفارغة التي لا غناء فيها، ويتوحدوا تحت لواء القرآن العظيم ويستظلوا براية النبي الكريم ومنهاج الإسلام القويم. فإن أجابوا فهو خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وتستطيع الدعوة بهم أن تختصر الوقت والجهود، وإن أبوا فلا بأس علينا أن ننتظر قليلًا وأن نلتمس المعونة من الله وحده حتي يحاط بهم ويسقط في أيديهم ويضطروا إلي العمل للدعوة أذنابًا وقد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
دعوة صريحة واضحة أن يكون خليفة للمسلمين..ومن الإخوان تناسخت الجماعات كالفيروسات تماما، حزب التحرير الإسلامي، التكفير والهجرة، الجهاد، الجماعة الإسلامية، السلفية الجهادية، القاعدة، داعش..إلخ، وكلها تسعي للخلافة أيا كانت الدماء المسالة والأرواح المزهقة والاضطرابات الحادثة. فهل يكون حديث شيخ الأزهر هو أول معول هدم في جماعات الخلافة الإرهابية؟
[email protected]
لمزيد من مقالات نبيـــل عمــــر رابط دائم: