من المُتفق عليه أن المصالح واعتبارات الامن القومى هى الموجه الرئيسى للسياسات الخارجية لكُل الدول أيًا كان شكل نظامها السياسي، وتوجهات نخبتها الحاكمة، ودرجة تقدمها الاقتصادى والاجتماعي. ولم يعُد هذا الأمر محل اختلاف أو جدل ولكن من المُتفق عليه أيضًا أن الدول تختلف من حيث احترامها لدور القيم والمبادئ فى سياساتها الخارجية، وللثقافة التى تنطلقُ منها. هُناك دول لا تتورع فى القيام بأى عملٍ من احتلال وقتل وتخريب لتحقيق مصالحها، وهُناك دول أُخرى تضعُ حدودًا على سلوكها الخارجى انطلاقًا من الثقافة السائدة بين مواطنيها وخبرتها التاريخية الطويلة فى التعامُلِ مع الدول الأُخري.
وأعتقدُ أن مِصر تقعُ ضمن الفئة الثانية من الدول فالثقافة المصرية عمومًا لا تتصفُ بالعُنف وتتسمُ بالموادعة والانفتاح على الشعوب الأخري. وعلى مدى أجيال عاش بيننا أجانب من مُختلف الجنسيات والأديان، وسكنت جاليات يونانية وايطالية انتشرت فى كُل المحافظات واستوعبت مصر مئات الآلاف من العرب ابتداء من هجرة الشوام الهاربين من عسف الدولة العثمانية فى نهاية القرن التاسع عشر إلى الهجرة العراقية والسورية بعد 2011. ورغم تقلبات العلاقات العربية العربية بعد عام 1952، فإن مصر لم تُشهر السلاح ضد طرف عربى حتى فى ظروف الانفصال السورى عن الجمهورية العربية المُتحدة فى سبتمبر 1961 وعندما امتلك الرئيس جمال عبد الناصرالسُلطة الشرعية لدحر الانقلاب العسكرى بالقوة.
أكتُب هذه السطور بمُناسبة بعض التعليقات والآراء على قيام مصر بإرسال معونات طبية إلى الصين فى أول مارس وإيطاليا فى أول ابريل 2020، والتى اتسمت بالسُخرية والتندُر أحيانًا، وبالأحكام المُتسرعة أحيانًا أُخرى والتى صدرت أغلبها عن حسن قصد وليس فى ذهنى التعليق على من لهم مواقف سياسية ثابتة مُعارضة أو مناهضة لتوجهات الدولة المصرية. وفى مجال التوضيح لم تكُن مِصرُ هى الدولة الوحيدة التى قامت بمثل هذا الاجراء، بل أن هُناك دولا أُخرى تُماثلها فى درجة النمو الاقتصادى أو أقل منها قامت بإجراءات مماثلة، وان هذا السلوك هو تعبيرُ عن التضامن الدولى ضد وباء مرض الكورونا وعن العلاقات التى تربط مصر بكُل من الصين وإيطاليا وعما تمثله مصر تاريخًا وحضارة من قيم أخلاقية.
وعندما يُتابع المرء المصادر بدقة، سوف يتضح له أن مصر قدمت دعمًا إلى الصين مرتين الأولى فى وقت ما فى نهاية يناير أو بداية فبراير، والثانية فى مارس2020.المرة الأولى يدُل عليها بيان وزارة الخارجية الصينية يوم 5 فبراير والذى سجل ان هناك 21 دولة قدمت دعمًا طبيًا للصين وشملت هذه القائمة عددا من الدول الآسيوية والأوروبية وثلاث دول عربية هى مصر والامارات والجزائر. وسجل البيان ان الحكومة الصينية ترحب بالدعم وتقدم الشكر لهذه الدول. أما المرة الثانية التى حظيت بأكبر قدر من التغطية الإعلامية فكانت عندما سافرت وزيرة الصحة ، د. هالة زايد، إلى الصين بتكليف من الرئيس السيسى لتسليم هدية رمزية من الشعب المصرى إلى الشعب الصينى للدلالة على التضامن معه فى محنته. وفى نفس اليوم، تمت إضاءة بعض المعالم الأثرية المصرية ورسم عليها العلم الصيني. لم يكُن نوع هذه الهدية أو حجم الدعم الطبى هو الأمر المُهم بل كان وصول الوزيرة المصرية إلى مطار بكين فى وقت كانت الصين معزولة عن العالم يتحاشاها الجميع ولا يزورها أى مسئول بسبب تفشى الوباء فيها. ولا بد أن الصينيين فهموا هذا المعنى فوصفها السفير الصينى بالقاهرة بأنها: زيارة تضامن وتبادُل خبرات، وأنها سوف تترك آثارها فى التعاون بين البلدين. وفى المؤتمر الصحفى للمُتحدث الرسمى لوزارة الخارجية الصينية يوم 2 مارس ذكر بالنص: أنه فى الوقت الذى وصل فيه كفاح الشعب الصينى ضد الوباء مرحلة حرجة، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى أرسل الوزيرة هالة زايد كمبعوث شخصى لها للتعبير عن التعاطف والدعم وتسليم أدوات طبية إلى الصين. وان ذلك يوضح الأهمية الكبيرة التى توليها مصر للعلاقات مع الصين وصداقتها العميقة مع الشعب الصينى وأننا نُعبر عن تقديرنا وشُكرنا.
وبالنسبة للدعم الموجه إلى إيطاليا، فقد تم فى سياق زيارة قامت بها وزيرة الصحة مع وفد من القوات المسلحة يوم 4 إبريل، وذلك لتسليم شحنة من المُعدات الطبية التى حملتها طائرتان عسكريتان حيث كان فى استقبالها بالمطار وزير الخارجية الإيطالي. وحضور وزير الخارجية هو امرُ له دلالة. فمن الناحية البروتوكولية، فإن من يتولى هذا المنصب عادة ما يكون فى موقعٍ أرفع من منصب وزير الصحة. ولعلنا نتذكر أنه فى فترة مرض رئيس الوزراء البريطاني، تولى مهامه وزير الخارجية. وأنه فى الولايات المُتحدة، يأتى وزير الخارجية بعد الرئيس ونائبه من بين شاغلى السلطة الفيدرالية. وتبادل الوزيران كلمات مُوجزة ذكرت الوزيرة المصرية أنها أتت بتكليف من الرئيس تحملُ رسالة تضامُن من الشعب المصرى إلى الشعب الإيطالي. ورد عليها بكلمة شكر فيها الشعب المصرى والحكومة المصرية وأعقب ذلك كتابته تغريدة على موقعه بتويتر ذكر فيها: إن المساعدة الطبية التى تأتينا هذه الأيام من الخارج هى أساسية لتدعيم مُستشفياتنا. واليوم أظهرت مصر وأوكرانيا تضامنهما مع شعبنا.. وهو موقف نقدره بشكل كبير. وكما هو الحال مع الصين، لم تكن مصر هى الدولة الوحيدة التى قدمت الدعم وشاركها فى ذلك روسيا، والصين، وكوريا الجنوبية، وأوكرانيا، والامارات، والولايات المُتحدة. ما قامت به القيادة السياسية المصرية هو لفتة إنسانية وحضارية مع دولتين لهما علاقات عميقة وطويلة ومُتنوعة معنا. وكما يُقال إننا نعرف الأصدقاء فى أوقات الشدائد والمحن، ونعرفهم من مواقفهم المؤازرة والتضامنية وليس بحجم ما يُقدمونه من دعم مادي. وهى لفتة تليق بتاريخ مصر وحضارتها.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: