أهنئكم أيها الأحباء بعيد القيامة المجيد الذى يحتفل به العالم فى ظروف استثنائية هذا العام وقد سبقه الأسبوع المقدس او أسبوع الآلام والذى نعيشه بالصلوات والأصوام والقراءات والألحان المعزية مع الطقوس الكنسية غزيرة المعانى الروحية.
ويأتى عيد القيامة بعد 55 يوم صوم فيها النسك والزهد حتى تنساب الى قلب الإنسان مشاعر الصليب وما سبقه من أحداث وألام.
وبعد ثالثة أيام من موت الصليب يقوم السيد المسيح من القبر نافضا الموت هازما هذه الشوكة فى حياة الإنسانية. وقيامة المسيح ثابتة تاريخيا وجغرافيا واثريا وكنسيا عبر أكثر من عشرين قرنا بعشرات الأدلة، بل وصارت القيامة المجيدة هى حجر الأساس فى الإيمان المسيحي. وأثبتت القيامة أن الحياة أقوى من الموت، والحب أسمى من الكراهية ، وأن الخير أقوى من الشر، وأن الحق أسمى من الباطل. ولولا القيامة لكانت كرازتنا باطلة وإيماننا باطلا فنعيش الشقاء والفناء الأبدي. (1 كورنثوس15).
وبعد حدث القيامة بأيام نتقابل مع توما الرسول الشكاك وقد تحول عن شكه المميت ونال تطويبا من السيد المسيح القائم: لأنك رأيتنى يا توما آمنت . طوبى للذين آمنوا ولم يروا. (يوحنا 20 :29).
ونتقابل أيضا مع بطرس الرسول الناكر وقد تاب عن إنكاره عندما تأكد من حب المسيح له: يارب أنت تعلم كل شيء . أنت تعرف انى أحبك. (يوحنا 21 :17). وكذلك مع مريم المجدلية الباكية والمتحيرة والتى كلفها المسيح بنقل بشرى القيامة إلى التلاميذ. (يوحنا 20 :11-18).
ولأن المسيح قام فى اليوم الثالث، لذا صار لهذا الرقم سحره وخصوصيته إذ أن الرقم 3 يعبر عن الإنسان. بمعنى آخر أن حياة الإنسان هى ثلاثة أيام : يوم الميلاد، ويوم الوفاة، وبينهما يوم الحياة الطويل. ويوم الحياة هو الذى يصف منظومة الحياة الإنسانية التى هى ليل يذهب ونهار يجيء، وأيضا بذرة تموت وثمرة تحيا، وأيضا جيل يبنى وجيل يجني، ودموع تنساب وافراح تولد.... وهكذا.
ويعبر الكتاب المقدس عن يوم الحياة قائلا: ما هى حياتكم .إنها بخار يظهر قليلا ثم يضمحل. (رسالة يعقوب 4 :14)
ورحلة حياة الإنسان على الأرض تتعدد فيها المخاوف الكثيرة من المرض ومن الفقر ومن الفشل ومن فقدان الأحباء ومن الشيخوخة ومن العجز.. ومن الوحدة ومن الظالم .. ومن الزمن ....الخ.
وهذه المخاوف الحقيقية أو الموضوعية أو الحسية تمتد طولا وعرضا فى حياة الإنسان مما جعل داود النبى يصلى ويصرخ: الرب نورى وخالصى ممن أخاف. الرب حصن حياتى ممن ارتعد. (مزمور 27 :1.)
ويقف الإنسان متحيرا: أين أنت يارب من هذه المخاوف ؟! هل نسيت خليقتك؟ أم أصواتنا لا تصل إليك؟! هل نمضى فى نفق الحياة المستمر دون ان نبصر نورا؟
أحيانا يقولون أن الحياة تشبه نفق طويل ليس فيه نور طبيعى ويعبر فيه الإنسان سائرا مسافات ومسافات وهو خائف حتى يلوح له فى النهاية نور... هذا بالضبط ما نعيشه فى نفق الحياة حتى نصل الى نور الأبدية. وفى حياة القديس بولس الرسول حدثت مخاوف كثيرة منها عندما تعرضت السفينة فى عرض البحر الأبيض المتوسط لأمواج عاتية وهو فى طريقه الى روما وكادت تتحطم ولم يمكنها أن تقابل الريح، فقال اختبار الإيمان: سلمنا فصرنا نحمل. (أعمال الرسل 27 :15). وهذا يعتبر انتقال من حالة الخوف إلى الحب أو من الألم الى الأمل. ورغم أن السفينة تحطمت ولكن لم يفقد احد من ركابها.
كذلك فى العهد القديم عندما أخطأ داود النبى ولم يستشر الرب كعادته وقام بتعداد الشعب وفى هذا قصور فى إيمانه اذ يعتمد على رجاله وعلى إمكاناته وليس على معونة الرب، وقد اعترف بخطئه سريعا وقال: لقد اخطأت جدا فيما فعلت, والآن يارب أذل اسم عبدك لأنى انحمقت جدا. (2صموئيل 24-10).
وعلى فم جاد النبى خيره الرب بإحدى التأديبات الثلاثة وهي: جوع سبع سنوات أو هروب ثلاثة أشهر امام الأعداء أو ثلاثة أيام وباء.. واختار التأديب الثالث وقال قولته المشهورة: اسقط فى يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط فى يد انسان. (2 صموئيل 24-14). ونحن نحتفل بالقيامة المجيدة نراها انتقال من حالة الخوف والألم الى حالة الحب والأمل وحتى نعيش هذا الاختبار فى حياتنا اليومية نحتاج ثلاثة خطوات عملية:
أولا: خطوة نقاء: واقصد نقاء القلوب لتكون صافية للرب فقط ومكتوب طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. (متى 5 :8) والمعاينة هى كمال الحب والأمل وفرح القيامة. كان القديس بطرس الرسول واحدا من أشهر تلاميذ السيد المسيح ولكنه سقط فى تجربة الإنكار عن ضعف، وبعد القيامة رده المسيح القائم الى رتبته وأزال منه الخوف ونقله الى مرتبة الحب الصافي. هؤلاء هم أصحاب القلوب الصافية التى فيهم تظهر الإنسانية بكل معانيها وهؤلاء المكتوب عنهم: طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. (متى 5:5).
ثانيا: خطوة رجاء: أى أصحاب العقول المترجية التى تمتاز بالأفكار الإيجابية. مثلما صنعت مريم المجدلية الإنسانة الباكية على فقدان الحبيب وعندما تنبهت الى صوته وعيونها مليئة بالدموع صرخت صرختها العميقة: ربونى الذى تفسيره يا معلم. (يوحنا 20 :16) وزال عنها الخوف بسبب الحب الذى فيها وذهبت لتبشير التلاميذ بالمسيح القائم.
خطوة الرجاء لكل الخطاة والتائهين والبعيدين والمهمشين، لأن المسيح رجاء من ليس له رجاء ومعين من ليس له معين وقيامته حولت الخوف واليأس الى فرح ورجاء.
ثالثا: خطوة بناء: بلا شك إذا توفر للإنسان نقاء القلب ورجاء العقل فستكون الخطوة الثالثة هى بناء وعمل. والمقصود بالبناء هو الارتفاع والسمو والعمار وخدمة الآخر. إنها خطوة أصحاب الأيدى العاملة من أجل كل إنسان. لقد كان توما الرسول غائبا وقت قيامة السيد وظهوره لتلاميذه ولم يصدقهم أنهم رأوا المسيح القائم ولكن بعد القيامة بأسبوع يظهر السيد المسيح لتلاميذه مرة أخرى ومعهم توما الرسول الشكاك ويزيل شكه من خلال يده وأصبعه التى وضعها فى مكان الحربة ومكان المسامير فى جسد السيد المسيح ويصرخ صرخته الإيمانية. ربى والهيي. (يوحنا 20 :28).
فمن يخدم الآخرين ومن يصير لهم الحضن والأمان والصديق والرفيق إنما يحولهم من الخوف إلى الحب الذى أخذه من المسيح القائم والمنتصر لأن القيامة تجدد الأمل فى قلوب كثيرة وتصير حياته هى نفس مشاعر داود النبي: أحبك يارب يا قوتي. (مزمور18-1).
إننا نحتفل بالقيامة المجيدة فى ظروف وباء فتاك له ضحايا فى بلاد كثيرة ومن بينها بلادنا الحبيبة مصر وقد أثر على الجميع بصورة لم نشهدها من قبل وبسبب انتشار العدوى كان الأجراء الحكيم هو الجلوس بالمنازل وعدم الخلطة او التجمع بأى عدد لمحاولة احتواء المرض والعدوى ولحفظ صحة الناس وعدم إصابتهم او فقدان الأحباء منهم. ولنا يقين فى وعد الله لنا على لسان حبقوق النبي: قدامه ذهب الوباء وعند رجليه خرجت الحمي. (حبقوق 3 :5)
ونحن فى هذا الإطار نقدم كل التقدير والاعتزاز إلى السيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس مجلس الوزراء والسيدة الدكتورة وزيرة الصحة وكل الأطباء والتمريض والفنيين وكل مسئولى الدولة على كل الإجراءات التى تمت لمحاصرة الوباء وتقليل آثاره الاجتماعية والاقتصادية ونشكرهم جميعا واثقين أن الله سيرفع هذا الألم قريبا ببركة الصلوات المرفوعة والإجراءات الشاملة.
وان كنا نحتفل بهذه المناسبات ونحن فى منازلنا وبعيدا عن وجودنا الجماعى فى كنائسنا للأسباب الصحية الطارئة فإننا نعتبرها فرصة نادرة لنا جميعا لاختبار سعادة الوجود العائلى والأسرى والتمتع بأفراد كل أسرة صغارا وكبارا، كما أنها فرصة استرخاء من نمط الحياة المتسارعة والتى فقدنا فيها أشياء إنسانية كثيرة. كذلك فرصة لنفكر فى حياتنا بصورة جديدة وفكر جديد ونعيد ترتيب الأولويات فى كل ما نصنعه.
ليعطيكم الله جميعا الصحة والعافية والسلامة والإيمان مصلين من أجل الجميع وفى كل مكان وكل قيامة وانتم جميعا بخير وسلام.
> بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية
لمزيد من مقالات البابا . تواضروس الثانى رابط دائم: