رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وقائع موت مفكر عظيم..
النيل كلمة السر فى وفاته الغامضة

محمد شمروخ;

الجغرافيا ليست مجرد علم أو تخصص وإن شئت فقل، هى تكثيف شديد للحياة وسجل أحداث لجدلية الإنسان والأرض، فى كل ما حولك، الوادى والسهل والجبل والصحراء والغابة.. هى النهر والبحر والمحيط والشاطئ والبحيرة والشلال والمستنقع.. هى الهواء والسحاب والمطر والحر والبرد وما بينهما.. هى توزيع الثروات فى باطن الأرض وظاهرها وتوزيع الإنسان بين والساحل والداخل. هى خطوط العرض للمكان والطول للزمان.هى الثانية واليوم والسنة.

لذلك أصدق وصف قيل عن جمال حمدان أنه «فيلسوف الجغرافيا».

...................

رغم كل ما قيل عن الظروف التى أحاطت حادث وفاة الدكتور جمال حمدان عقب العثور عليه فى شقته بشارع أمين الرافعى بحى الدقى، إلا أن ما سيطر على مشاعرى للوهلة الأولى هو كيف واجه الموت وحيدا فى شقته الصغيرة بالدور الأرضى التى يعيش فيها بمفرده، التى لا تتناسب مع موقعها بالحى الراقى، لا أذكر منها إلا شحوب جدرانها التى كاد يختفى لون طلاؤها الأصلى وخطوات قصيرة لقطع مسافة نحو ركن المطبخ الذى اشتعل فيه الحريق المحدود واحتراق جريدة قديمة مفروشة على سطح مائدة صغيرة بجوار «بوتاجاز سطح» وخرطوم غاز يتدلى من اسطوانة بوتاجاز وآثار دخان بسيط. حولها.

هذا كل ما أتذكره عن منزل جمال حمدان ولم أفاجأ بتواضع المكان لأن جمال حمدان بالنسبة لى كقارئ له منذ فترة مبكرة من العمر قيمة كبرى ازدادت مع سماعى عن عزلته التى فرضها على نفسه وليس غريبا ألا يهتم جمال حمدان بزخارف الحياة ليسكن قصرا منيفا أو شقة فاخرة أو يبحث عن مراكز وألقاب يتباهى بها.

فماذا ننتظر إذن أن نرى فى الصومعة؟!

كان جمال حمدان له أسلوب صارم يعرفه الكثيرون عنه فى حياته، محدود الأصدقاء، محدود العلاقات، يعيش حياة الزاهد فى الدنيا، لا لبخل ولا عوز ولكن لأنه كلف نفسه بما لا يطيق معه وجود أى أثر لأى زيف اجتماعى ولو تخفى فى ألقاب ومراكز علمية.

الرجل فرغ حياته للقراءة والكتابة والفكر، فصار مسكنه محراب علم لا يتردد عليه أحد حتى البواب يتفق معه على دق الباب بطريقة معينة ليفتح له عندما يحضر حاجياته وهناك فقط الطباخ الذى يحضر لتجهيز طعامه والمقربون لهم مواعيد محددة يتم الاتفاق عليها مسبقا أو بترك رسالة.

وكما هو متوقع، مات موتة العابد فى هذا المحراب، ولكن مع الأسف، فالموت داهمه بقسوة أيا كان شكل وكيف كان هذا الموت الذى لا ينتظر منه أن يخضع لنظام زيارة الراهب العظيم.

فهل مات بصدمة عصبية ناتجة عن حرق؟! أم من فعل إجرامى غامض ارتكبت باحتراف حقق معضلة الجريمة الكاملة؟!.

شعرت بغصة فى الحلق ووخزة فى القلب عندما وصف أحد حارسى العقارات المجاورة فى شارع أمين الرافعى رفض رجال الإسعاف نقله إلى المستشفى لأنه كان قد فارق الحياة لأنه لا يجوز لهم نقل جثث فتركوه، أما مشهد حمل جثمان جمال حمدان ووضعه فى صندوق سيارة نقل لحمله إلى المشرحة فلا يمكن تحمل وصفه.

تمنيت ساعتها أن أكون فى وداعه رغم قسوة الحدث ولكن لم ألحق به لأن كل شيء جرى سريعا منذ انتباه حارس العمارة للدخان وإبلاغ المطافى والعثور على المفكر الكبير ميتا فى المطبخ ثم حضور الشرطة مع مفتش الصحة وحمل الجثة إلى المشرحة، كل هذا حدث سريعا قبل أن يصلنا النبأ فى أعقاب عصرية يوم أبريلى غير محدد الملامح ما بين قدوم الربيع ورحيل الشتاء.

كان صاحب النبأ الأول هو الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فقد دق جرس تليفون قسم الحوادث بالأهرام وكان المتحدث الأستاذ منير عساف مدير مكتب هيكل يسأل عن الأستاذ حسن أبو العينين رئيس القسم الذى كان قد غادر لتوه بعد انتهاء يوم العمل التقليدى ولما أخبرته بذلك قال إن الأستاذ هيكل يريد أن يتحقق من نبأ عن وفاة الدكتور جمال حمدان فى بيته ثم طلب الانتظار ليحول المكالمة إلى الأستاذ نفسه ويأتى صوته مشوبا بالحزن

بلغنى خبر عن وفاة الدكتور جمال حمدان فى حريق بمسكنه بالدقي

ــ سنتأكد يا أستاذ ونخبرك على الفور.

وعلى الفور أجريت مكالمة مع الضابط المشرف على نجدة الجيزة فأجاب بعد مراجعة بيانات أمامه.

ـ آه بالفعل عندنا بلاغ حريق ومتوفى فى شارع أمين الرافعى دائرة قسم شرطة الدقي

ـ ما اسمه؟

ـ المدون لدى أن الجثة لشخص اسمه جمال محمود حمدان سن 65 سنة.. وفاة إثر حريق أسطوانة البوتاجاز بشقته وتمت السيطرة على الحريق.

بدأت الشكوك تحوم حول ظروف الحادث خاصة أن الحريق لم يكن كبيرا ولا حتى متوسطا.

ــ «يا عم ده حتى النار ما حرقتش غير الجورنان المفروش على الترابيزة وحتة من خرطوم الأنبوبة».

هكذا قال مفتش مباحث وسط الجيزة فى قسم شرطة الدقى غير البعيد عن مكان الحادث.

أما العقيد صلاح شحاتة قائد مطافى الجيزة فقد أسرعت إليه فى مقر إدارة الدفاع المدنى فى منطقة بين السرايات غير البعيدة أيضا، ذلك لأنه كان أول من وصل إلى مكان البلاغ فأشار بيده على مسافة من ذراعه ممثلا طول وحجم الحرق الذى أصاب جمال حمدان: «حرق فى الفخد طول كده.. 12 سنتى بس».

والمحصلة أن حمدان مات وصار حديث الجميع واتخذت نهايته التراجيدية تكسب تعاطفا كبيرا، خاصة بعد أن صار حديث المنتديات الثقافية.

لكن الناحية الجنائية قد أغلقت، لأنه لم يعثر خلال المعاينات وعند مناظرة الجثة مع التقرير الطبى عن حالة الوفاة أى ما يدل على دخول غريب إلى شقة حمدان أو فقدان شيء ذى قيمة، خاصة أن نظام معيشته الصارم وضيق دائرة معارفه، لا يبقى احتمالا لوقوع جريمة جنائية، هذا مع فحص مداخل وخارج الشقة مع وجود عدة أشخاص بالقرب منها عند وقوع الحريق، مع عدم اشتباه أى من ذويه فى الحادث وعدم توجيه الاتهام لأحد، لذلك قيد الحادث على أنه وفاة ناتجة عن حريق.

أما ما بقى من الأحداث فهو المشهد المفزع بالموت المفاجئ وحيدا، فهل يمكن أن يصرخ حمدان؟!.. هل تقبل كبرياء العالم فيه أن يستغيث بأحد؟!.. أتراه مد يده فى الرمق الأخير لعله يطلب جرعة ماء، فلم يجد؟!.

«النيل يحل اللغز»

كان كل هذا ما ظل عالقا فى ذهنى مع ذكر اسم جمال حمدان أو استدعاء الذكريات حول يوم الحادث حتى جاء يوم كنت أتابع فيه عملى الروتينى فى مجال الجريمة، إذ ذهبت إلى قسم الدقى لمتابعة قضية مقتل الدكتورة سلوى لبيب عميدة معهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة, والتى وجدت مذبوحة داخل شقتها بشارع نوال بالقرب من كورنيش النيل بحى العجوزة ولم يكن هناك أى رابط بين قضيتها وحادث مصرع جمال حمدان قبلها بحوالى عشرة شهور، ربما الروابط الأخرى لم تلفت انتباهى، فهناك تطابق فى تخصص الدكتورة سلوى كأستاذة جغرافيا والجغرافيا هى التى عشق حمدان من المهد إلى اللحد.. ثمة شيء آخر.. فكلاهما يعيش وحيدا مع فارق ثراء الدكتورة، هل من رابط آخر؟!

النيل؟!

دعك مما قيل عن أن كتابا أعده حمدان عن إسرائيل كتوسعة كبرى لكتابه الشهير الذى ألفه فى الستينيات «اليهود إنثربولوجيا» والذى تتبع فيه أصول إسرائيل الحالية وفند مزاعم انتمائها إلى نسل يعقوب عليه السلام أو أى نسب بنى إسرائيل التاريخيين ورغم أن فكرة إسرائيل قائمة أساسا على مثل هذا الزعم، إلا أن مسألة انتماء اليهود الإشكناز لشعب الخزر ودخولهم اليهودية فى القرن الثامن الميلادى، قد شاعت فضلا عن أن إسرائيل الآن تحاول تقديم نفسها كدولة مدنية.

أما عن كتابه عن «العالم الإسلامى» الذى وسع فيه دراساته -على غرار تطوير كتاب شخصية مصر- إلى عمل موسوعى وكان النواة للعمل الجديد كتابه الذى حمل العنوان نفسه وصدر سنة 1972، فيمكن أن يكون أكثر خطورة، ففى الكتاب السابق شدد النكير على الأطماع التركية فى العالم الإسلامى ووسم الخلافة العثمانية بالاحتلال واتهم سلاطين الأتراك بأنهم يستخدمون الإسلام فقط لأغراض سياسية وأنهم شوهوا رسالة الإسلام وتاريخه وهم سبب تخلف المسلمين وأخطر ما قرره فى الكتاب هو استحالة خضوع جميع الدول الإسلامية لسلطة واحدة تحت زعم الخلافة وأن ذلك لم يحدث فى التاريخ على وجه الحقيقة إلا فى الخلافة الراشدة ولظروف التأسيس، فرأى حمدان فى شجاعة علمية ومنهجية جبارة، أن تنوع المجتمعات الإسلامية فى طول وعرض العالم الإسلامى هو أفضل ملامح الإسلام وثروته الحقيقية فالانتماء العقدى لا يعنى الوحدة السياسية والذى يتصادم مع حقائق التاريخ والجغرافيا وما قرره حمدان ينسف مشروع تركيا - الذى لم يكن أعلن بعد- كما أنه يدمر الفكرة الرئيسية لجماعات الإسلام السياسى والتى تتحالف الآن مع تركيا لتحقيق هذا المشروع الذى حكم التاريخ والجغرافيا على لسان حمدان بفشله!.

لكن الرابط الأكيد الذى جعل مفتش بمباحث مديرية الأمن بالجيزة، يربط جنائيا بين مقتل سلوى لبيب بعد فترة وجيزة من «مقتل» جمال حمدان، هو النيل!.

وقال بالحرف: «الدكتور جمال والدكتورة سلوى، تعرضا للمشروعات التى يقال إن إسرائيل تعد لها سرا فى هضبة الحبشة وكلاهما مات بجريمة كاملة»!.

ففى ذلك الوقت لم يثر شيء عن هذا الأمر ولكن كان هناك تحركات مريبة فيما بين الثلاثى «إثيوبيا- إسرائيل- تركيا» هذه التحركات تنبهت لها مصر ولكنها لم تثر على المستويات الإعلامية أو يعلن عنها بأى وسائل، لكن هذه القضية كان جمال حمدان سبق أن سخر من محاولة تغيير مجرى النيل الأزرق إلى البحر الأحمر إبان الغزو الأوروبى الصليبى لفلسطين والشام لتعطيش مصر وقتلها جوعا، كما وصف محاولة القائد البرتغالى «البوكيرك» فى القرن الخامس عشر بأنها «حلم فاوستى» فاشل سخرت منه الجغرافيا، كذلك تنبأ فى موضع آخر بأن الخطر القادم لمصر سيأتى من الجنوب بالإشارة إلى إثيوبيا وكان هذا فى فترة مبكرة جدا وقيل إنه أزمع إصدار دراسة عن هذا الأمر بالتفصيل من شأنها كشف المخطط!.

هناك معلومات أن شخصين أجنبيين -أحدهما على الأقل يحمل الجنسية التركية- راقبا حمدان بعد استئجار شقة بالقرب منه وتمكنا من جمع معلومات عنه واختفيا عقب الحادث.

أما عن سلوى لبيب، فقد كانت مبررات قتلها أكثر وضوحا كالجريمة نفسها، فقد سبق أن زارت إثيوبيا حوالى عشرين مرة وأعدت دراسات وافية عن المناطق التى يمكن إنشاء سدود عليها فى وقت لم يعلن فيه عن أى نية ولها كتاب بعنوان «التغلغل الصهيونى فى إفريقيا» وعن مشروعات إسرائيل فى دول أعالى النيل فى إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان!.

ولكن شخصا تركيا كان قد سجل نفسه عند دخوله مصر كصحفى يعمل فى إحدى القنوات يدعى إبراهيم أكابابا قد اتصل بالدكتورة سلوى لعمل برنامج معها بصفتها عالمة جغرافيا ولكنه فى هذا الشأن لم يخطر هيئة الاستعلامات المصرية، كما تقتضى الإجراءات، وبالفعل ذهب بناء على موعد مسبق وقام بتصوير الشقة لاستخدام مشاهد منها بالبرنامج لاسيما أنها ترى النيل ولكن فجأة عثر على الدكتورة سلوى مذبوحة واختفى أكابابا التركى وبعدها ثبت أنه سافر خارج البلاد!.

تطابقت وجهة النظر هذه مع الزميل الكاتب صحفى حمادة إمام الذى تابع القضيتين وضمنهما فى كتابه «الموساد واغتيل زعماء وعلماء»

قد يبدو الربط غريبا ولكن فريق البحث العامل فى قضية سلوى كان مصرا عليه غير أنه لم يتجاوز التحريات والمعلومات إلى أدلة لأن التخطيط لكلتا الجريمتين قد تجاوز الأساليب الجنائية العادية, مع ذلك قمت بنشر كثير من التفاصيل وقتها خاصة فى الجريمة الثانية لوضوح معالمها كجريمة قتل صريحة ولكن كما قيد حادث تحت رقم إدارى بمحضر حريق ومتوفى، قيدت أوراق المحضر الجنائى بمقتل سلوى لبيب ضد مجهول.

لكن الأحداث التالية أيدت بقوة ما ردده ضباط فريق البحث الجنائى ولكن لم يجدوا دليلا عليهن حتى صدقته الأيام.

حتى لو كان ذلك محض أوهام بالنسبة لجمال حمدان فكيف يكون بالنسبة للدكتورة سلوى برغم عدم ثبوت تعاونهما مباشرة فى هذا الشأن، لكن هذا لا ينفى أن دراساتهما كل على حدة قد تنبهت لذلك الخطر مبكرا بما لا يدع مجالا للشك!.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق