غالبية الناس لا تزال شديدة الحرص على ما ورثته من الحقوق التى تكاد تكون خالية من الواجبات.. والأغلبيات المتسيدة فى عالم اليوم، لا تزال حتى الآن شديدة الحرص على ميراثها من حقوق لا يقابلها واجبات والتزامات نحو الأقليات بمجتمعها.. ولا تريد أن تفرط ولا أن تفلت من يدها شيئا كان لها أو لآبائها وأجدادها.. ويبدو أن الأمور لم تعد الآن كما كانت عند الأولين .. لم تعد تسمح بأن يترك الأذكياء ذكاءهم والنشطاء نشاطهم وعملهم وجدهم وأن ينضووا تحت جناح الأغبياء المغرورين العاطلين من القدرة والعطاء.. ولم يعد أمام هؤلاء الذين ارتاحوا إلى أغلبيتهم وغرورهم، إلاَّ أن يخرجوا من شرنقة الخمول الذى اعتادوه وألفوه، ويقبلوا المنافسة بقوانينها ومعطياتها، أو أن يستسلموا لزوال القوة التى ظنوا أنها لا بد أن تدين دواما للأغلبية مهما خملت وانطفأت، وأن يفارقوا ويرحلوا تاركين الأرض للقادرين على تعميرها وتطويرها، أو أن يعملوا لديهم وتحت إمرة قيادة ذكائهم ونشاطهم، لتتحول الأغلبية التى نعمت زمانا بالقوة والمزايا، إلى سُخَرة أو ما يشبه السُخْرة لدى من تفوقوا بقوانين وأدوات الصراع!.
نعم لم يعد الأمر كما كان، خاصة فى البلاد المتطورة المتقدمة.. اللهم إلاَّ فى الطبقات الدنيا التى تعيش فى تخلف تام معنويا وماديا.. ومثل هؤلاء تقريبا, تعيش أغلبية الناس فى إفريقيا وفى معظم آسيا وأكثر أهل أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية.. يعانون ذلك التضاد المقلق الذى يظهر ويختفى ليظهر ثانية بين الأغلبيات والأقليات.. هذا التضاد الذى لا يريد أىٌّ من الفريقين أن يفرط فيه.. لأن كليهما يتمسك بماضيه تمسك المعتز أو تمسك الساخط الثائر عليه: هذا بأحقاده وذاك بامتيازه واعتزازه. وإلى أن تفارق هذه الملايين من البشر ما اعتادت عليه وألفته من ذلك، وأن تنظر إلى واقعها وحاضرها ومستقبلها بعين العقل واتخاذ الأسباب، لا بعين الغرور أو السخط واجترار الغيظ وقلة الحيلة.. لا سبيل لهؤلاء للخروج من وهدة ما هم فيه إلاَّ بأن تنسى هذه المجاميع ماضيها نسيان اليقظ الذى استيقظ من سباته وتفطن لما يجديه فى محيطه.. وركز همه وجهده على إدراكه والوصول إليه والحصول عليه.. وهذا يحتاج إلى إفاقة وإصرار ومثابرة، وإلى سريان روح اجتهاد الصاحين الواعين الفاهمين, إلى طوفان الخاملين الغافلين الأغرار الأغبياء أو المتغابين.. وبديهى فإن سريان هذه الروح وانتقالها فى تيار متواصل قوى من المجتهدين إلى الخاملين, يستلزم عشرات السني، مع تغيير معالم المحيط إلى المزيد من التذكير بالحاضر والمستقبل، والتقليل ما أمكن من الإحالة على الماضى وسد ذرائع الردة إليه والاتكال عليه!. وهذا يفسر ما يلاحظه المتأمل من بطء انتشار الفطنة بين البشر رغم امتداد وسائل النقل والإعلام إلى أبعد بقاع الأرض والسرعة الهائلة فى التقليد والمحاكاة فى المآكل والمشارب والملابس وفى الزينة والزهو واللهو!. أما ما هو داخلى جوهرى, فلا يكاد يزيد ولعله يتقلص ويتخافت ويبتعد.. يخفى تراجعه نشاط ما هو خارجه بإغراءاته وبحركته ويسر تبادله وعدواه وتبديله وتغييره تبعا للأمزجة والأهواء.
إننا ضحايا دون أن نشعر.. ضحايا تركيزنا وإمعاننا فى التركيز على كل ما هو عرضى بل هامشى .. لا فرق بين الرجل والمرأة، ولا بين الكبير والصغير، ولا بين العالم والجاهل. وهذا التركيز على العرضى الهامشى يغوينا ببعض المنافع العاجلة التى قد نتعود على إدمان تصيدها والغرق فيها.. فيتعطل أو يختل تعاون وتساند أجهزتنا النفسية والعقلية حول وحدة ذاتنا.. هذان التعاون والتساند اللذان نتأمل بهما ونقرر ونعزم وننفذ ويكون لنا منهما مبادئ وأصول وأخلاق. ودون ذلك نفقد دون أن ندرى, قدرتنا على الإخلاص والوفاء والاتزان والصداقة والمحبة. إن عالمنا الحاضر واسع المعارف الطبيعية والوضعية سعة غير مسبوقة إلى حد أنها عمت الآفاق وغصت بمنتجاته الأسواق. لكنه على سعته الهائلة فى ظاهر ما يحصله من علم وما يقدمه من إنتاج ومبتكرات وسلع من شتى الأصناف والألوان، لا يكاد يمس أعماق الآدمى. لأنه لا ينشد ابتداءً وانتهاءً ترقية داخل الإنسان كما كان يفعل عشاق وطلاب المعرفة فى الزمن القديم.. برغم قلتهم آنذاك وقلة إمكاناتهم وقلة ما كان لديهم من الوسائل والأدوات والفرص، بينما صار عالمنا الآن لا ينشد من معارفه, فى الدرجة الأولى, إلا الشهرة والسمعة والرزق والمنفعة والاتصال برجال المال والأعمال وفتح منافذ الصناعة والتجارة على كل مصاريعها وإفساحها بلا حد.. ويكاد اهتمامنا اليوم بالمعرفة والعلم والتعلم, يكاد يتوقف عند ما هو محسوس وخارجى وعرضى وعملى وتكنولوجى ويسوقنا سوقًا شديدًا باستمرار إلى خارج كل منا.. أى إلى ما ليس لنا عليه سلطان حقيقى.. وجمود عقل الآدمى مهما اشتد، هو جمود نسبى.. لأن العقل البشرى إنما يعيش على احتمالات يعايشها.. وهى كامنة ومتغلغلة فى صميم يقينياته وثوابته. ومعايشة الاحتمالات والاعتماد الدائم الهائل عليها ، جرى ويجرى بصورة معقدة دائبة التعقيد والتركيب.. وهى التى حفرت تلك الهوة العميقة جدا بين الآدمى وبين بقية الأحياء.
ويبدو أننا ندين إلى الاحتمالات التى ليس لها حد أو نهاية ومعايشتها والالتصاق التام بها، ومقابلتها ومواجهتها.. ندين لهذه الاحتمالات بكل ما يكون معنا مما نسميه حضارة وتمدنا ومعرفة وعلما وفنا وذوقا وفكرا ورقيّا فى آدابنا وسلوكنا وأخلاقنا، وفى مساكننا وطعامنا ولباسنا، وفى كل ما يخالط حياتنا. ولو توقفت مسيرة هذه الاحتمالات غير المحدودة التى نعيش بها ونواجهها ونعايشها، لتوقفت تماما حياتنا التى نعرفها، وتوقف معها كل ما نسميه آدميتنا وبشريتنا وإنسانيتنا. ودور العقائد، والرابطة التى تربط بين أهل كل عقيدة، بمنزلة السقف الذى يتطامن به وتحته معظم الآدميين فى حركتهم وسعيهم فى خضم الحياة التى لا تبقى على حال، وتجرى أقدارها فى صيرورة دائمة يتوقف الأحياء عن الحياة إذا لم يتفهموها ويلاحقوا حركتها.
لمزيد من مقالات رجائى عطية رابط دائم: