خطر لى خاطر طريف وأنا أهم بكتابة هذه المقالة الأخيرة فى سلسلة المقالات عن مواجهة تحدى سد النهضة وهو الاعتذار للقارئ الكريم عن تعدد هذه المقالات فى وقت انشغال تام بكورونا ومخاطره غير أنى وجدت أن خطر التعنت الإثيوبى أشد، وقد استعرضت فى المقالة السابقة جدوى التحرك الدبلوماسى عامة ودائرته العربية خاصة، وتحلل هذه المقالة آليات التحرك الإفريقى والدولى والآليات غير الدبلوماسية، وعلى صعيد التحرك الإفريقى ذهب بعض المقالات إلى أن مصر أحجمت عن عرض المسألة على الاتحاد الإفريقى حفاظا على وحدته خاصة فى سنة رئاستها له وأنه آن الأوان لطرح القضية إفريقيا، وهو رأى سديد ولكن المهم هو منهج العرض، وأعتقد أنه يجب أن يركز على كسب التأييد لوجهة النظر المصرية للضغط على إثيوبيا كى تقبل بما تقضى به قواعد القانون الدولى وإعلان المبادئ الذى التزمت به بمحض إرادتها، فليس المطلوب إدانة إثيوبيا وعقابها فهذا لن يحدث لعلاقاتها الإفريقية ووزنها فى القارة وإنما موافقتها على التسوية المتوازنة، وطالب البعض بتطوير العلاقات مع دول حوض النيل على أساس استراتيجى وهو تحرك لن يؤتى ثماره على المدى القصير خاصة أن مواقف بعضها داعمة للموقف الإثيوبي، ولعل هذا يفسر أن أيا من المقالات لم يعلق على دعوة الرئيس الأوغندى لقمة تعقدها هذه الدول خاصة وقد جاءت فى عقب زيارة رئيسة إثيوبيا لأوغندا.
وعلى الصعيد الدولى ألمح بعض المقالات إلى ازدواجية الموقف الأمريكى رغم دوره الإيجابى فى التوصل إلى مسودة اتفاق، ويستند البعض فى هذا إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكى بأن التوصل إلى اتفاق يتطلب شهورا والإحساس بأن الإدارة الأمريكية وإن رحبت بالموقف المصرى لم تظهر أى نية للضغط على إثيوبيا، ومعروف أن بينهما مصالح استراتيجية مشتركة، ولذا طالب البعض بإدخال قوى أخرى فى المعادلة كروسيا والصين، وهى مسألة تحتاج تقييما موضوعيا لموقفيهما، ويلاحظ أن أحدا لم يتحدث عن أوروبا مع أنها تملك أوراقا اقتصادية يمكن الاستفادة منها كما أن العلاقات المصرية-الأوروبية تشهد مزيدا من التضامن فى مواجهة الإرهاب والعربدة التركية، وعلى صعيد الأمم المتحدة طالب البعض بعرض الموضوع على مجلس الأمن، وهى خطوة مهمة يجب الإعداد لها جيدا لعدم توقع انحياز سهل للحق المصرى لاعتبارات عديدة، ولذلك فإن منهج الطرح مهم كما كان فى الاتحاد الإفريقي، ولما كانت محكمة العدل الدولية لا تستطيع التصدى للقضية إلا بموافقة أطرافها فقد طالب كثيرون بالاستفادة من الاختصاص الإفتائى للمحكمة على أساس أن صدور فتوى لمصلحة الموقف المصرى سوف يمثل ورقة مهمة، وطالب أحد المقالات بأن تعلن مصر قبولها الاختصاص الإلزامى للمحكمة كى تؤكد شرعية موقفها مقابل الرفض الإثيوبي.
ويبقى تحليل التوجهات التى رأت أن التعنت الإثيوبى يستوجب تجاوز التحرك الدبلوماسي، وهنا انقسمت المقالات إلى نوعين استخدم أولهما إشارات غير مباشرة وإن مفهومة كالقول بأنه لو تم الملء دون اتفاق فسوف يعنى هذا الانتقال من التعاون للصراع، أو بأن المسألة باتت وجودية تُنذر بحروب مياه معلنة، أو أنه لابد من رسالة لإثيوبيا تؤكد تقديرنا لحقها فى التنمية لكن إصرارها على موقفها لن يكون مقبولا مهما تكن العواقب وستندم إثيوبيا أشد الندم، أو أنه حين تصل الأمور إلى تهديد حياة المصريين فلا أحد بوسعه التنبؤ بما سيحدث، أو أن مصر اتبعت الأسلوب الدبلوماسى وحسن النية وكان بإمكانها عرقلة السد لكن إذا انحرف المسار الإثيوبى عما تم الاتفاق عليه فهذا سيكون له شأن آخر وأدوات أخرى ... واستمرار تجاهل المصالح المصرية لا يمكن السكوت عليه، وأن كل السيناريوهات المتوقعة قد وُضِعَت وتمت مناقشة كيفية التصرف بموجبها، أما النوع الثانى وهو الأقل عددا فقد أشار صراحة إلى الخيار العسكرى كما فى القول بأنه يظل قائما حتى لو لم يتم التهديد به على طاولة المفاوضات، أو أن على إثيوبيا أن تعلم أن سلوكها سيجعل كل الخيارات متاحة أمامنا بما فى ذلك الخيار العسكرى رغم مرارته وتكلفته، وبالمقابل حذر بعض المقالات من الانزلاق والتسرع فى اتخاذ خطوات لا تُحسب بميزان الذهب، بل لقد ذهب أحد المقالات إلى أن إثيوبيا تستفز مصر لتوريطها فى خيار عسكرى يستنزفها، وعلق آخر بأن البعض لا يمانع فى توريط مصر فى مواجهات عسكرية وكأنه لا توجد «عناوين» أخرى للقوة، ولفت البعض إلى الممانعة الإفريقية والدولية المتوقعة للخيار العسكري.
ولقد كنت دائما معارضا للخيار العسكرى فى هذه القضية لاعتبارات موضوعية عديدة أولها أن مصر دولة تحترم الشرعية الدولية ولا يمكن أن تلجأ لهذا الخيار دون رخصة دولية لا يمكن أن تصدر عن مجلس الأمن صاحب الحق الوحيد فى هذا بسبب توازنات القوى داخله بينما يمكن للمجلس أن يتخذ إجراءات تجبر إثيوبيا على الانصياع للقانون الدولى بفرض عقوبات اقتصادية مثلا كما حدث فى حالة النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا، وثانيا أن إفريقيا لا يمكن أن تساند خيارا كهذا على الأقل لاعتبارات عملية، والأمر نفسه ينسحب على المجتمع الدولي، وثالثا أن الخيار العسكرى يعطى الآخرين حق الرد ولدينا أهدافنا المائية الحيوية، ولا يصح الاحتجاج هنا بميزان القوى لأننا نتحدث كثيرا عن مؤامرة على مصر وبالتالى لن تعدم إثيوبيا من يساعدها فى الرد، ورابعا وأخيرا أن ثمة عناوين أخرى للقوة لا يمكن مناقشتها علنا، ويبقى أن مصر من منظور قوتها الشاملة قادرة بإذن الله على بلورة منظومة البدائل المطلوبة لصون حقوقها، ولا ننسى أن انتصارنا فى معركة سد النهضة لا ينهى تحدى ندرة المياه وبالتالى مازال أمامنا عمل داخلى شاق بعد انتصارنا فى هذه المعركة إن شاء الله.
لمزيد من مقالات د.أحمد يوسف أحمد رابط دائم: