ألهبت الحضارة المصرية القديمة، ولا تزال خيال الناس شرقا وغربا، فأقبلوا عليها علماء وباحثين، فى حين أن هذه الحضارة نفسها تعانى بعضاً من الغربة فى وطنها ،صحيح أن هناك إحساساً ضمنياً كامناً فى ضمائر المصريين بمدى أهمية تراثهم وخطورته، ولكنه يظل فى معظم الأحوال مجرد شعور كامن، غامض، لا تقابله معرفة علمية بماهية هذا التراث ولا بحقائق مظاهره التاريخية والفكرية. فعلى الرغم من أن المصرى القديم هو «معلم البشرية» الأول الذى علمها القراءة والكتابة، وهو الأول فى العالم أجمع الذى اكتشف الكتابة وحروفها وصنع الأوراق والأقلام إلا أن ما كُتب عن تاريخ مصر القديمة وحضارة شعبها بأقلام مصرية ضئيل إذا ما قورن بما تفيض به كل يوم المطابع ودور النشر الأجنبية عن كل مظاهر الحضارة المصرية القديمة..هذا ما أكده الدكتور سمير عبدالتواب حمدة ،مدير إدارة الوعى الأثرى بأسيوط، مضيفا ولقد كان لأسيوط دور مهم فى تاريخ الحضارة المصرية القديمة بل دور رائد فى تاريخ البشرية جمعاء، وحتى فى العصور الفرعونية المتأخرة لعبت أسيوط دورا مهما لوجود 5 أقاليم فرعونية بها من العاشر حتى الرابع عشر.
مضيفا أن ما يطلق عليه العلماء عصور ما قبل التاريخ هى عصور كانت أسيوط فيها حاضرة ومتحضرة ،فبينما كان الإنسان يعيش حياة تقوم على الترحال والتنقل من مكان لآخر بحثاً عن مصادر غذائه، وكانت الطبيعة هى التى تعوله حيث تمده بالطعام والشراب ويعيش على الصيد بمختلف أنواعه (الطيور-الحيوانات- الأسماك) أو جمع والتقاط الثمار والفاكهة، وكان كل همه فى تلك الفترة الحصول على طعامه ولم تكن هذه الظروف تجعله يحيا حياة مستقرة فيها مجتمع بشرى متكامل الأركان، فى هذا الوقت كانت أسيوط تنعم بحياة مستقرة تكونت فيها المجتمعات البشرية وظهرت فيها الزراعة والصناعة والمعتقدات الدينية .وفيها استأنس الإنسان الحيوان وقام بتربيته وهو ما ضمن له الغذاء . وأتاحت الفرصة أمامه استثمار وقته فى أشياء أخرى مصاحبة ومكملة للزراعة كتربية الحيوانات واتجاهه إلى صناعة ما يحتاجه من أدوات تساعده فى الزراعة، تلك الأدوات التى مازال يعتمد على أغلبها الفلاحون فى وقتنا الحالي.
واشار الى ان حضارة أسيوط تمثلت فى العصر الحجرى الحديث فى منطقة دير تاسا ،وفى العصر النحاسى فى منطقة البداري.
أما منطقة دير تاسا» فتعود حضارتها إلى عام 4800 ق.م تقريباً ،وتقع شمال البدارى وكشف عنها «برونتون» (Brunton) عام 1927م، وكشف عن منطقة المقابر بها، وقد عرف أهل أسيوط بدير تاسا الزراعة وعثر على فئوس من الحجر الجيرى ،كما عثر على رحى كثيرة لطحن الحبوب والغلال وتحويلها إلى دقيق، . وقاموا بتربية الحيوانات كالأبقار. وعرفوا الكتان ونسجه.وصنعوا خمسة أنواع من الفخار. وصنعوا أدوات زينتهم مثل العقود من القواقع والخرز المصنوع من العظم، وصلايات لسحق مواد الزينة. ودفنوا موتاهم بوضعهم على جانبهم الأيسر ووجوههم جهة الغرب.
وأوضح أن حضارة البداري، والتى وإن كانت غير مكتوبة بحروف أبجدية على أوراق أو جدران فإنها كتبت بالأدلة الأثرية التى خلفتها فما صنعوه من أدوات تتحدث عنهم ناطقة بمعان لا يمكن جهلها، تعبر عن مدى رقيهم وتقدمهم فى المجالات المختلفة كالزراعة والصناعة والصيد ،وتقع البدارى على الضفة الشرقية للنيل. وقد كانت إحدى قرى الصعيد التى اشتركت فى صنع الحضارة المصرية، وهى أقدم مكان فى مصر كلها عثر فيه على أدوات صنعت من معدن النحاس، كشفته لنا الحفائر الأثرية منذ سبعة وتسعين عاماً حيث بدأت الحفائر الأثرية فيها الفترة من 1922-1925 وقد أجريت هذه الحفائر فى بعض القرى والنجوع التابعة لمركز البدارى وأهمها المستجدة والهمامية ونزلة الشيخ عيسى والشيخ علم الدين. وتدل الآثار التى عثر عليها أن تاريخها يرجع إلى 4500 قبل الميلاد تقريباً. وبدراسة الآثار التى عثر عليها خلص الباحثون إلى أن البداريين كانوا على درجة متقدمة من الرقى الحضارى بالمقارنة بغيرهم من المصريين الأوائل الذين عاشوا فى الصعيد خلال العصور الحجرية السابقة.
ويؤكد أنه من صور ازدهار حضارة البدارى أنهم عرفوا الزراعة واعتمدوا عليها فى توفير ما يحتاجونه من غذاء وملابس، كما زرعوا الكتان واستخدموه على نطاق واسع فى صنع ملابسهم بعد غزله ونسجه بطريقة أكثر دقة وتقدماً. كما استخدموا الملابس المصنوعة من جلود الحيوانات اتقاءً لبرد الشتاء، وبرعوا فى دباغة الجلود وجعلها لينة ناعمة. ويدل غزلهم الكتان ونسجهم له على أنهم استطاعوا ابتكار أنوال للنسيج ذات كفاءة عالية.
أما فى مجال التعدين فتدل القطع الأثرية التى عثر عليها فى البدارى والمصنوعة من النحاس الذى كانوا يحصلون عليه من شبه جزيرة سيناء والصحراء الشرقية مثل الحلى وحبات الخرز والمثاقب ودبابيس الشعر على أن البدارى أقدم منطقة لتعدين النحاس. ومن الأمور المحيرة كيف استطاع البداريون ثقب الإبرة المصنوعة من النحاس فهذا الثقب كان ستلزم صنعه وجود مثقاب ذى سن رفيعة جدا وحاد مصنوع من معدن آخر أشد صلابة من النحاس.
كما عثر على عدد كبير جدا من القلائد والأساور والخواتم والأقراط والأحزمة والمآزر المزينة بالخرز الملون وكانت بعض هذه الأدوات مصنوعة من العاج وقشر بيض النعام والأصداف، ولم تقتصر أدوات الزينة هذه على النساء فقط بل كان يستخدمها الرجال والأطفال أيضاً. كما تم العثور على أمشاط للشعر صنعت من العظام وذات أسنان طويلة متقاربة وضيقة الفتحات،وكانت رءوس هذه الأمشاط مزينة أو بأياد ذات أشكال فنية آدمية وحيوانية وأشكال طيور. كما عثر على مصاحن من الإردواز لصحن المواد المستخدمة فى الزينة وكذلك صلايات الكحل. ومن القطع الأثرية التى عثر عليها أيضاً ومما يؤكد درجة الرقى والرفاهية التى وصل إليها البداريون فلقد عثر على ملاعق من العاج ذات تجاويف مربعة أو مستطيلة أو بيضاوية وصنعوا مقابضها على هيئة طيور أو حيوانات كالغزال.
صناعة التماثيل
ويكمل الدكتور سمير حمدة كلامه مستعرضا مظاهر حضارة البدارى قائلا: كما عرف البداريون صناعة التماثيل الآدمية وعثر على مجموعة من تماثيل النساء مصنوعة من الصلصال والفخار والعاج وهى بداية لفن النحت الذى تطور فى العصور اللاحقة حتى أصبحت مصر رائدة لفن النحت فى العالم القديم كله. كما دفنوا موتاهم فى مقابر عبارة عن حفرة بيضاوية الشكل مبطنة جدرانها بالحصير فى وضع القرفصاء كالجنين فى بطن أمه وكانوا يضعون جسد الميت على لوحة من الخشب أو الحجر وهى طريقة لم تكن مستخدمة من قبل حيث كان الجسد يوضع فوق التراب وكانوا يلفون جسد المتوفى فى أكفان من الجلد أو قماش الكتان فى سلال كبيرة من البوص وربما هى بداية لفكرة التابوت.
وحرص البداريون على تزويد مقابر موتاهم بعدد من الأوانى وأدوات الزينة المستعملة أثناء حياتهم. كانوا أيضاً يدفنون حيواناتهم النافقة فى مقابر خاصة بعد لف أجسادها بالأكفان.
واختتم مدير إدارة الوعى الأثرى بأسيوط كلامه قائلا: لقد كان أصحاب حضارة البدارى مرفهين يلبسون الثياب ويتزينون بالأساور والقلائد ويزرعون قوتهم ويصنعون أدواتهم بل وتعبر طريقة دفنهم لموتاهم عن معتقداتهم الدينية التى تؤمن بوجود حياة ثانية سيحياها الإنسان بعد موته فى العالم الآخر ،وأن دفنه فى وضع الجنين هو إيمان منهم بأنهم سيحيون مرة ثانية كما يولد الجنين.
أما تزويد موتاهم بأدوات للمأكل والمشرب والزينة فهو يدل بشكل قاطع على ثمة حياة فى العالم الآخر وعلى تعاطفه مع الميت وحرصهم على راحته الأبدية ومن المشاعر السامية المعبرة عن تلك الأحاسيس الراقية حرصهم على وضع باقات من الورود والزهور العطرية بالقرب من صدر المتوفي. لقد كان عصرهم بالفعل البداية الحقيقية للحضارة المصرية القديمة التى أبهرت العالم ومازالت .. فإذا كان الإنسان قد هبط على سطح الأرض وهو لا يملك إلا جسده فإنه زرع وصنع وبنى وعمّر وأقام حضارة بما آتاه الله له من عقل وفكر وبما سخره له من العالم حوله.
رابط دائم: