رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عصر التفاهة

بجرأة وعنف ومنطق صارم يمزق الفيلسوف الكندى آلان دونو  فى كتابه (نظام التفاهة) ورقة التوت عن حالة من التفاهة تتحكم فى مفاصل العالم ومراكز صناعة القرار، فى الثقافة والفن والتعليم والصحافة والإعلام والتجارة والسياسة، ويشهر فى وجوهنا عشرات الأدلة والبراهين والوقائع التى تثبت وجهة نظره وتجعل من كتابه أيقونة عالمية، قد لا يعنينا صعود هؤلاء التافهين العاديين محدودى المواهب والمهارات إلى صدارة المشهد العام على كوكب الأرض، لكن لا نستطيع أن نستبعد تأثيرهم فى مسارات حياتنا داخل حدودنا، بل داخل بيوتنا وفى غرف نومنا، ألم يفعل بنا ذلك رئيس أجنبى أو مخرج لفيلم مبتذل أو موسيقى زاعق أو رئيس تحرير مجلة فضائح أو روائى ركيك اللغة وعالمه من الجنس والقتل والرعب والإدمان، أو غاوى شهرة يمطرنا كل بضع ساعات بفيديوهات سافلة على شبكات التواصل الاجتماعي، أو داعية متشدد يغازل جهل الناس بدينهم ويبعدهم عن التسامح والمحبة، أو نجمة عارية تستعرض بذاءتها علنا..الخ.  نعم صرنا جميعا عرضة للإصابة المباشرة  بفيروس التفاهة فى كل وقت وأى وقت، ولا يفلح معه عزل صحى ولا حظر تجمعات ولا مواد تطهير ولا كمامات وقاية، لأنه ينتشر بسرعة الضوء لا بسرعة الرياح ولا الصواريخ. لكن المصيبة أن مراكز السيطرة والسلطة صارت هدفا متاحا لهؤلاء التافهين، يسعون إليها بكل السبل، خاصة أن الطرق ممهدة وتحالف التافهين السرى يصد عنهم أصحاب المواهب والقدرات الخاصة المتميزة، ويستبعدهم أولا بأول من المنافسة.

وأتصور أن دلائل وجود التافهين فى مراكز صناعة القرار شائعة، ولا تغيب عن أقل الناس فطنة منذ سنوات طويلة، وعلى الرغم من هذا كان كتاب آلان دونو الصادر قبل ثلاث سنوات مفاجأة بكل المقاييس. ومن المؤكد أن كثيرا منا سمع عن حكاية الجاسوس الأمريكى فى بنية الاتحاد السوفيتى القديم وتسبب فى دماره، فاختفت الدولة العظمى  عن الوجود فى ديسمبر 1994. جاسوس فى صلب السلطة، فيروس ساكن صامت، بلا كتاب شفرة ولا حبر سري، ولا جهاز استقبال فى نصف كف اليد، ولا أسرار طائرة، فقط عليه أن يدفع بأسوأ العناصر إلى كل الوظائف المرموقة، وغباؤها أو تفاهتها هو  قنبلة ذرية نظيفة، تنشطر فى الدولة وتجعل عاليها واطيها بهدوء وشمول.

وبالطبع كلنا صدق هذه الحكاية التى وردت أول مرة فى روايات الكاتب التركى عزيز نيسين، واسمه الحقيقى محمد نصرت نيسين، ولجأ إلى اسم عزيز هروبا من مطاردات الأمن السياسي، بعد أن دخل السجن أكثر من مرة، وهو من أفضل كتاب الكوميديا السوداء فى العالم، ويوصف بأنه »موليير الأدب التركي«، ومات عام 1995 عن عمر  يناهز 80 عاما، أى عاش أكثر من الاتحاد السوفيتى ومات بعد موته بأربع سنوات. لكن الرواية يكتنفها الغموض والتساؤلات، لأن شخصا واحدا يستحيل أن يتحكم فى وظائف الدولة العليا جميعها إلا إذا كان رئيس الدولة نفسه، ويقال إن الرئيس السوفيتى الأخير ميخائيل جورباتشوف هو ذلك الجاسوس الغامض، الذى خرج للعلن حين تولى السلطة فى عام 1988، ولعب الدور الأكبر فى تفكك الاتحاد السوفييتى تحت شعار  براق جدا البريسترويكا (إعادة البناء)، وإن عمل تحت جلد الدولة منذ تعيينه سكرتيرا للحزب الشيوعى الحاكم فى عام 1974.

لكن بعد قراءة كتاب آلان دونو، نفضت هذه الحكاية ودفنتها فى كهف «الخرافات الشعبية»، وحل نظام التفاهة محلها سببا مهما من أسباب انهيار العملاق السوفييتي.  وهو تفسير يتفق مع عالم المنطق أليكساندر زينوفييف وهو يصف السمات العامة للنظام السوفيتي: أن التافه هو من ينجو، وللتفاهة فرصة أفضل فى النجاح.

وقال فى روايته: المرتفعات المتثائبة التى نشرها عام 1976 تحديا للسلطات السوفيتية: أنا اتحدث عن التفاهة كأمر معتاد وعام

فى النجاح الاجتماعي، فالمؤسسة الجيدة التى تستقطب الاعتراف الرسمى بنجاحها سرعان ما تتحول إلى شيء مزيف أو إلى نموذج اختبارى تجريبي، ثم تبدأ فى التراجع بعدها، حتى تنحدر إلى محض خدعة بصرية تجريبية تافهة. كان زينوفييف واعيا بقدرة العمل المُبهرَج على أن يكون ذا تأثير  وقدرة على تشكيل العقول. ونظام التفاهة تمدد إلى كل نشاط فى الفضاء العام، سياسة وإعلاما وجامعات وتجارة ونقابات، صار اللعبة الأكثر شيوعا، يكاد يمارسها الجميع دون أن يتكلم عنها، فهى لعبة دون قواعد مكتوبة، لها شكل واحد هو اختزال نشاط البشر إلى مجرد حسابات مصالح متعلقة بالربح والخسارة المادية والمعنوية، يعنى وجود مال وثروة وسمعة وشهرة وعلاقات اجتماعية، والهدف هو  أن يتسلل الفساد إلى خلايا الجسد الاجتماعى ويسكن فيه تماما، فيفقد الناس أى اهتمام بالشأن العام وينكمشون داخل ذواتهم ومصالحهم الشخصية المباشرة.

وإذا كان الطموح الاجتماعى يطارد نوعين من الناس، الأول هم  أصحاب القدرات الخاصة ذوو المعايير الرفيعة فى النجاح،  والثانى هم العاديون ذوو المعايير المتوسطة أو الأقل الباحثون عن النجاح السهل، وللأسف النوع الثانى هو الذى يدير اللعبة، لأن الطبيعة اليومية للحياة تميل إلى التبسيط والبعد عن المجهود الشاق، والانغماس فى أداء المطلوب فى حدوده الدنيا. ولأن العاديين هم الكثرة ولهم الغلبة، فهم يعملون طوال الوقت إلى إنزال  أصحاب المواهب الرائعة إلى المعايير المتوسطة، فالنزول من الجبل أسهل مائة مرة من تسلقه. 

ولنظام التفاهة لغة ينقل بها رسالته إلى الجميع، لغة جوفاء تبدو محملة بحقائق وأحكام كلية، حشو وتكرار بألفاظ مختلفة، وكأن قائلها يقول جديدا، مع أنه لا يضيف على ما هو معروف بمقدار خردلة، فالخطاب الأجوف صالح لكل زمان ومكان، رسائل حسن البنا نموذجا، خطابات دونالد ترامب دواوين شعر حديث متراصة فى المكتبات.

فى مقابل هذه اللغة، توجد لغة معقدة أو تبالغ فى التعقيد تستغلق على الفهم، حتى صارت موضة فى بعض الأوساط، فدفعت غالبية الناس إلى لغة التبسيط الأجوف وليس البساطة، وكلاهما خطر على الصحة العقلية للمجتمع، فالتبسيط المبالغ فيه تفاهة تهدر الجودة، والتعقيد منفر ويمهد الطريق للتفاهة.

للحديث بقية عن التفاهة الداخلية.


لمزيد من مقالات نبيـــل عمــــر

رابط دائم: