رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مبارك.. العزاء والناس والسياسة

لى صديق رومانسى يبدو على غضب دائم، فهو يحلم دائما بمصر دولة عظمي، ولأن حلمه صعب المنال، كبر متمردا ثائرا على أوضاع لا تعجبه، وكان يحيره: كيف للمصريين المحدثين أن يقبلوا العيش على هامش الحضارة الحديثة، وهم أصل الحضارة الإنسانية؟، فكان يكتب فى مذكراته: قمة المأساة أن يكون جدك عظيما وأنت لا شئ على الإطلاق. صديقى هذا أستاذ جامعى فى الهندسة، أساءه جدا ما جرى للتعليم من تدهور رهيب، وكتب كثيرا منتقدا أحوال البلاد والعباد، وكان من الذين ثاروا على الرئيس حسنى مبارك فى يناير 2011.

زارنى بعد رحيل الرئيس مبارك بأيام وسألني: ماذا يحدث؟

تصورت أنه قلق بسبب ما يذاع وينشر عن فيروس كورونا، فإذا به يقول: لا يا سيدى أسألك عن معنى رد فعل كثير من المصريين على وفاة مبارك وما صاحب العزاء من ضجة.

قلت له: يا أستاذ يبدو أن الهندسة أنستك تاريخ مصر والمصريين.

سأل: ماذا تقصد؟ أجبت: الموت عند المصريين له تقاليد قديمة متوارثة، حتى إن أشهر كتبهم هو (كتاب الموتي)، ومن هذه التقاليد تعزية أهل الميت حتى لو كانوا على خصومة معهم، وعدم الخوض فى مثالب الموتي، وذكر محاسنهم فقط.

أما العزاء الذى كان أشبه بلقاء مجتمعي، فلاشات وأحاديث جانبية ومناقشات منفصلة وضحكات، فهو  تجسيد بالصوت والصورة لتطورات أصابت عزاء الشخصيات العامة فى السنوات الأخيرة، أشبه بـ عرض اجتماعى عام، دون أى معنى سياسى ولا توثيق على قيمة تاريخية محددة لرئيس حكم مصر ثلاثين عاما.

بالطبع الرئيس الراحل حسنى مبارك محل جدل عام، لكن التاريخ الأقرب للصحة لا يُكتب إلا بعد عقود،  لأن كتابته تحت ضغط المشاعر المتأججة بالغضب أو السابحة فى المحبة لن تكون ذات قيمة علمية.

نظر صديقى ناحيتى شذرا، وقال بحدة: يبدو أنك غيرت آراءك فى عصر حسنى مبارك! ضحكت محاولا التخفيف من شدة الجدل: قطعا لا.. وكما قلت أنت أراء وليست تقييما تاريخيا، وتظل آراء حتى لو كانت مبنية على معلومات صحيحة، لكن التقييم التاريخى يعتمد على الوثائق والمستندات وشهادات المصادر فى مراكز صناعة القرار. وللأسف نحن نتعامل مع رؤسائنا باعتبارهم أنصاف آلهة أو شياطين، ولم يسلم لنا زعيم منذ محمد على من العبادة أو الإهانة، من التقديس أو التحقير، من الاحتفاء أو الجلد، من نثر الزهور أو قذف الحجارة.

سألنى جادا: وما رأيك الآن؟ أرجعت الكرسى إلى الخلف وأغمضت عينى ورحت استرجع عصرا عشته لحظة بلحظة، منذ اغتيال الرئيس أنور السادات فى المنصة إلى مشهد نجوم السينما والكرة والمال فى سرادق العزاء.

بدأ مبارك حكمه باقتدار وحكمة، كأنه يكمل مهمته بطلا من أبطال حرب أكتوبر، كانت مصر  تمشى فوق صفيح ساخن منذ انتفاضة الخبز فى يناير 1977، دولة  متوترة الأعصاب، ترفع جماعات الإسلام السياسى السلاح فى وجهها، وفى حاجة إلى قبطان هادئ الطباع قوى الإرادة، أقرب إلى رئيس مجلس إدارة منه إلى قائد سياسى يهوى برواز الزعامة، فالصدمات التى لجأ إليها أنور السادات أنهكتها نفسيا، فوجدت ضالتها فى مبارك، الذى تصالح مع المعارضة، وأخذ يردد أنه يحكم وهو يعلم أن الكفن مالوش جيوب، وقال: لا ينبغى لأحد أن يأخذ أكثر مما يستحق، حتى يسلم الوطن من النفاق والانتهازية والوصوليين، ولن أرحم أحدا حتى لو أقرب الأقرباء، فمصر ليست ضيعة لحاكمها أو صفوتها.  لكن لأسباب متعلقة بتراث السلطة وتقاليد الحكم، تحول من رئيس مؤقت إلى رئيس مؤبد، وهى حالة تجلب المتاعب أكثر من درها للمكاسب، لأن السلطة إذا استقرت فى يد الإنسان زمنا طويلا، تُفسد أحواله بالإكراه، كما يشهد التاريخ منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا. ولم يتمتع مبارك بالسلطة المطلقة إلا فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ثم اشتدت فى أوائل التسعينيات تدريجيا، وأخطر  نتائجها هو التجريف الهائل فى الحياة العامة.. صحيح أن مصر دولة مركزية يرتبط استقرارها تاريخيا بسلطة قوية قابضة على مقاليدها، لكن هذه السلطة تسمح فى الغالب بمساحات لشخصيات وطنية عفية، لم تعتد على شغل الطاعة العمياء والنفاق الرخيص، يعمل لهم النظام حسابا وتقديرا نسبيا يسهم فى بناء وعى الوطن. وأحيانا تزهق السلطة من هذه الشخصيات وتتخلص منهم بالعنف كما فعل أنور السادات، واعتقلهم فى سبتمبر 1981، فلم يعش أكثر من ثلاثين يوما. المدهش أن مبارك رئيس مجلس إدارة مصر نجح فيما فشل فيه السادات الزعيم السياسي، وتخلص تدريجيا من:

1ـ شخصيات رسمية قوية مثل فؤاد محيى الدين، منصور حسن، كمال حسن علي، محمد عبدالحليم أبو غزالة..الخ.

2- شخصيات عامة معارضة مثل ممتاز نصار، كمال القاضي، علوى حافظ وغيرهم، وسمح بمساحة عامة  لأعضاء من جماعة الإخوان.

وبالتدريج راحت الساحة تخلو من هؤلاء الكبار ولم يبق إلا الشلة وأصحاب المصالح والمتسلقون، ولم يمر مصرى إلى وظيفة مرموقة إلا بإذنهم ومن تحت عباءتهم إلا فى القليل النادر. ثم بدأ مبارك رحلة الابتعاد عن أهل مصر فى رئاسته الثانية، ولم يعد يميل إلى الاستماع إلى الشكاوى والمشكلات والأزمات، وعاير المصريين فى خطاب عيد العمال مع ولايته الثالثة باستهلاك كميات كبيرة من السكر فى شرب الشاي، ويبدو أنه نسى أصله الريفي، لأن الحلو فى الأرياف قبلى وبحرى والأحياء الشعبية الفقيرة هو الشاى سكر زيادة، لكنه لم يقترب أبدا من الدعم بل دافع عنه بقوة حين طلب بعض وزرائه إلغاء بعض بنوده. فى هذه الفترة نفسها أخضر عود الولدين علاء وجمال وشبا عن الطوق، واتجها إلى عالم البيزنس، وكانا نقطة ضعفه الأشد، التى أسهمت فى النهاية التى لم يتوقعها أحد. ومبارك شخصيا لم يؤيد فكرة توريث جمال ابنه الحكم مطلقا، بالرغم من الضغوط العائلية لكنه لم يقطع الطريق تماما على الفكرة التى أدرك مدى خطورتها. 

عاش مبارك إنسانا، لا ملاكا ولا شيطانا، مصريا يحب وطنه، لكن بطريقة أو قاعدة متوارثة ما أحلى مصر حين تكون فى جيبي.


لمزيد من مقالات نبيـــل عمــــر

رابط دائم: