اختارت تركيا أن تطلق على عدوانها الجديد على سوريا اسم «درع الربيع» وهو العدوان الذى بدأ فى الساعات الأولى من شهر مارس تنفيذا لتهديدات الرئيس التركى الذى كان قد أعطى مهلة للجيش السورى لينسحب من كل الأراضى والمدن التى كان قد نجح فى استعادتها من محافظة إدلب وريفها تنتهى آخر فبراير الفائت. الساعات الأولى لهذا العدوان كشفت عن تحقيق نجاحات عسكرية للقوات التركية والميليشيات المعارضة والإرهابية الموالية منها قتل أعداد من الجنود السوريين وإسقاط طائرتين من طراز «سو- 24» الروسية. اللافت أن هذه النجاحات العسكرية اقترنت بممارسات استفزازية تركية متعمدة لروسيا وللاتحاد الأوروبى بالاعتداء على ثلاثة من طاقم وكالة «سبوتنيك» (الروسية الرسمية للأنباء فى اسطنبول وترحيلهم إلى أنقرة للتحقيق)، ثم فتح منافذ الحدود التركية أمام آلاف المهاجرين السوريين ليتدفق هؤلاء مندفعين نحو بوابات الحدود مع اليونان والصدام مع قوات الأمن اليونانية، وربما يحدث الشىء نفسه مع حدود أخرى لتركيا مع دول أوروبية مجاورة.
هذا النوع من الممارسات يكشف عن حقيقة مهمة وهى أن النظام الحاكم فى أنقرة يواجه مأزقاً صعباً دفعه للتورط العسكرى فى سوريا. هذا المأزق يؤكد أن العدوان التركى الجديد ضد سوريا لا يتجاوز كونه محاولة تكتيكية لإنقاذ ماء الوجه أمام تفاقم الضغوط الداخلية فى تركيا من حلفائه أولاً خاصة حزب «الحركة القومية» اليمينى العنصرى وزعيمه دولت بهتشلى الذى طالب الجيش التركى «بالزحف فوراً لاحتلال مدينة دمشق والإطاحة بالرئيس السورى بشار الأسد وتدمير قلاعه» رداً على مقتل عدد كبير من الجنود الأتراك فى قصف لقوات الجيش السورى على إحدى نقاط المراقبة العسكرية التركية فى ريف إدلب، وثانياً من داخل حزبه الحاكم «حزب العدالة والتنمية» وثالثاً من جانب المعارضة خاصة «الحزب الجمهوري» حيث يجد نفسه محاصراً بين من يطالبون بالمزيد من التورط للحفاظ على الكرامة التركية وبين من يطالبون بالانسحاب حفاظاً على المصالح التركية. وإلى جانب هذه الضغوط الداخلية كانت هناك ضغوط خارجية أبرزها انهيار الجولة الثالثة من المفاوضات التى جرت فى موسكو بعد جولة جرت فى تركيا بين وفدين أمنيين وعسكريين تركى وروسى حول الوضع المتأزم فى إدلب ، بسبب رفض روسيا المطالب التركية فى الأراضى السورية وتأكيد موسكو أن الجانب التركى أخل بكل التزاماته فى اتفاق سوتشى وبالذات البند الخاص بتعهد تركيا بنزع الأسلحة الثقيلة للميليشيات الحليفة خاصة الإرهابية منها وبالتحديد «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي) أو إجبارها على المغادرة إلى دول أخرى خارج سوريا. روسيا ترى أن تركيا فعلت العكس، فقد لعبت على عامل الوقت لتثبيت وجود هذه الميليشيات الإرهابية، وقامت بنقل كمية ضخمة من الأسلحة المتطورة (دبابات ومدرعات ومدافع ثقيلة) والأهم إمداد تلك الميليشيات بصواريخ مضادة للطائرات تحمل على الكتف وهو ما اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لقواتها فى سوريا.
هناك سببان آخران دفعا تركيا نحو هذا العدوان على سوريا تحدث عنهما تشارلز ليستر مراسل صحيفة «صنداى تليجراف» البريطانية أولهما ضغوط أزمة اللاجئين السوريين على الداخل التركى للدرجة التى لم يعد النظام قادراً على تحمل تبعاتها، ومن ثم فإن السعى إلى احتلال مساحة واسعة من شمال سوريا تمتد 30 ــ 35كم فى العمق السورى يمكنه أن يحقق مصلحتين لتركيا، الأولى أمنية بتحويل هذه المساحة إلى «منطقة أمنية» أو على الأقل «منطقة آمنة» خاضعة للجيش التركى لمنع أى تهديد ممن تراهم ميليشيات كردية سورية تابعة لحزب العمال الكردستانى المعارض المصنف إرهابياً، والثانية اقتصادية اجتماعية بإعادة توطين ملايين اللاجئين السوريين فى تركيا داخل هذه المنطقة التى يمكن أن تحقق ثلاث نتائج: وضع نهاية للاستنزاف الاقتصادى الذى يمثله هؤلاء المهاجرون على الاقتصاد التركي، وتحويل هذه المنطقة إلى درع موالية لتركيا ضد الميليشيات الكردية السورية وجعلها خنجراً فى خاصرة الدولة السورية.
أما السبب الثانى فهو إنقاذ ماء وجه أردوغان أمام المنظمات والميليشيات الإرهابية الموالية التى تقاتل فى سوريا، خاصة منها ذات الأصول التركية والقوقازية مثل كتائب السلطان مراد وكتائب السلطان محمد الفاتح، ولواء الشهيد زكى تركمانى ولواء سمرقند وأجناد القوقاز، كل هؤلاء يقاتلون جنباً إلى جنب مع جبهة النصرة ومع ميليشيات المعارضة السورية، ونجاح الجيش السورى فى استعادة إدلب وريفها لن يضع أى خيار بديل لكل هؤلاء الإرهابيين سوى التقدم الحتمى والاضطرارى نحو الداخل التركى وهو خيار لا يقدر نظام أردوغان على تحمل تبعاته وتكلفته الداخلية على الأمن والاستقرار التركي.
كل هذه الأسباب فرضت على أردوغان أن يتورط فى سوريا وأن يسمى عدوانه «درع الربيع» تيمناً بقدوم فصل الربيع وطموحات فى تكرار بعض نجاحات عملية «درع السلام» التى سبق أن نفذتها القوات التركية فى شمال سوريا بتفاهم مع الأمريكيين ضد الميليشيات الكردية السورية، لكن أردوغان يعرف قبل غيره أن وجوده على الأراضى السورية وجود مؤقت، وأن تقدمه العسكرى لا يستطيع تجاوز الخطوط الروسية الحمراء وإلا فإن المواجهة لن تكون سورية ـ تركية فقط بل روسية ـ تركية بالأساس ناهيك عن تهديدات إيران هى الأخرى بالتدخل العسكرى لردع العدوان التركى بعد مقتل عدد من جنودها فى هذا العدوان، وعودة حزب الله ليقاتل إلى جانب الجيش السورى فى الشمال، فى الوقت الذى لم يحظ فيه أردوغان بعد باستجابة لمطالبه سواء من جانب الأوروبيين أو الأمريكيين لدعم عدوانه فى سوريا من ناحية والضغط على روسيا من ناحية أخرى كى تتجاوب مع المطالب التركية فى سوريا، وفضلاً عن ذلك لم يحظ أردوغان باستجابة روسية لعقد قمة ثنائية مع الرئيس الروسى أو ثلاثية بمشاركة الرئيس الإيرانى أو حتى رباعية (تركية ـ روسية ـ ألمانية ـ فرنسية) لحل الأزمة المتفجرة فى إدلب، ناهيك عن التحول المحتمل فى الموقف العسكرى الروسى رداً على العدوان التركى فى سوريا إذا لم يتوقف هذا العدوان، ما يعنى أن أردوغان لن يستطيع قطف أزهار ربيعه الذى يأمله فى سوريا، والأرجح أنه سيواجه خريفاً مدوياً فى تركيا بعد فشل عدوانه على سوريا.
لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس رابط دائم: