رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الثوابت والمتغيرات فى الإسلام (2)

نواصل فى هذا المقال الحديث عن الثوابت والمتغيرات فى الإسلام

المتغيرات: إن التجديد يقتضى فتح الأبواب والعقول. والرافعون لشعار التجديد دون أن يجددوا حالهم حال من يُطلب منهم أن يفتحوا بابًا فى الأسوار المغلقة، فيستجيبون فورا برسم باب على تلك الأسوار! ثم يطلبون منك المرور منه!. وهم يدعون أنهم سيقومون بالتجديد، وأنهم أولياؤه، وأنهم ملاك مفاتيح العقل والشرع، ثم يرفضون فتح عقولهم لهواء جديد! وهم أيضا يعترفون باشتمال الدين على متغيرات، لكنهم يعودون فيجمدون معانيها عند سالف الدهر!.

إن الدين ثابت ومطلق فى ذاته، لكن طرق فهمه وتفسيره فى النصوص متعددة المعانى وظنية الدلالة تأتى تبعا لعقول البشر وضوابطهم التى تختلف من مرجعية إلى مرجعية أخري؛ وتختلف طرق تنزيل أحكامه الثابتة على الواقع المتغير من مدرسة فقهية إلى أخري. ولذلك عندما قال الخوارج: لا حكم إلا لله، رد عليهم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه قائلا: القرآن بين دفتى المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال.

وتشمل المتغيرات فى الإسلام النصوص المتعددة المعانى من الكتاب والسنة الصحيحة، ومجالات الاجتهاد التى لم يقم عليها دليل قاطع فى الثبوت وقاطع فى المعني. وقد تشمل الطرق المتعددة لإنزال ثوابته فى الأحكام العملية على الواقع الذى يستلزم أحكامًا جديدة، ولهذا حديث آخر مطول لا ابتداع فيه بالعودة إلى العظيم عمر بن الخطاب. أؤكد (لا ابتداع فيه) حتى يهدأ المنغلقون والمزايدون.

والمتغيرات فى الدين كثيرة جدا، ونطاقها أوسع كثيرا من نطاق الثوابت، وهى فى أقل تقدير تبلغ 75 % من الدين، ويصل بها البعض إلى 95 %، لأنها تشمل كل الآيات والأحاديث المشتملة على ألفاظ أو عبارات متعددة المعنى حسب قواعد اللغة العربية ودلالات معاجمها، وهى غير قاطعة فى دلالتها على معنى واحد من القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وهذا أحد أسباب اختلاف الفقهاء والمفسرين فى تحديدها. وهى تمثل الجانب المتغير من الإسلام.

هذا الجانب المتغير هو ما يجب أن نعيد فحص التراث بشأنه فحصا نقديا، من أجل تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين، لأن الإحياء معناه أنك ستحول كل المتغيرات إلى ثوابت لكل العصور. والله سبحانه لو كان يريد الدين كله ثوابت، لجعل كل آياته محكمات قطعية الدلالة، لكن ما حدث فعلا أن القرآن منه القطعى المعنى لأنه من الثوابت لكل العصور، ومنه متعدد الدلالة ومرن المعانى لكى يلاءم كل المتغيرات التى تختلف باختلاف الزمان والمكان، ويصبح الانتقال من معنى إلى معنى تبعا للمصالح العامة.

وهذا الفهم للجانب المتغير فى الإسلام، يعد أحد أسرار عظمة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فى فهمه لكثير من الأحكام الواردة فى القرآن والسنة، حيث تعامل معها على أنها أحكام ليست ثابتة فى تنزيلها على الواقع، بل متغيرة، مثل حكم (المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) [التوبة:60]، ومثل عدم تطبيق حد السرقة فى عام الرمادة (المنتقى شرح موطأ مالك). بل إن هذه نصوص يقينية الثبوت يقينية الدلالة، لكن تتغير طرق إنزالها على الواقع كما فعل عمر.

ومن الأمثلة أيضا على الأحكام المتغيرة فى الإسلام (كما فى غريب الحديث لابن سلام، ج 3 ص 194)، حديث عمر أنه أخّر الصدقة عام الرمادة، وفى العام التالى أخذ منهم صدقة عامين. إن عمر فهم من الإسلام ما لم يفهمه الكهنة الذين يريدون أن يجمدوا الدين عند الماضي، مع أنه مجال عام مفتوح لتطور الأحكام فى كل العصور فى الجانب المتغير، وفى طرق إنزال الثوابت على الواقع المتغير. لكن الغريب أن البعض يقولون بمثل ما نقول به لكنهم عند التنفيذ يفعلون شيئا آخر ويظلون على جمودهم، فالتجديد عندهم شعارات مرفوعة، لكن الواقع يقول إنهم يرفضون أى تغيير حتى فى الأحكام المتغيرة التى يحتاجها المجتمع لمواجهة مشكلاته! إنهم يرسمون بابا للتجديد على الأسوار مجرد رسم، لكنهم أبدا لن يفتحوا بابا حقيقيا! أرجو أن نفهم!

ومن روائع عمر أنه استحدث نظما ليست فى الإسلام، مثل الدواوين الحكومية، وأخذ فيها عن الأمم الأخري، ولم يرفع شعار أننا الأفضل فى كل شيء وعندنا كل شيء! واستفاد من الأنظمة الفارسية والرومانية، مثل بيت أو ديوان المال، وديوان الإنشاء، وديوان العطاء، وديوان الجند الخ. وأبقى عمر على النقود المسيحية والفارسية الذهبية والفضية التى كانت متداولة وعليها نقوشهم، وهو أول من ضرب النقود فى الإسلام، بل اعتمد النقش الفارسى مضيفا عليه: لا إله إلا الله أو الحمد لله، ووضع على جزء منها اسمه.

والسؤال هنا: هل ما يجب علينا هو اتباع عمر بن الخطاب فى آرائه أم فى منهجه؟ هل المطلوب منا تقليده حرفيا فى آرائه، أم فى منهجه؟ أتصور أن الاتباع الحق هو تقليده فى منهجه، لأنه منهج علمى أصيل، بينما الآراء تتغير تبعا للمصلحة العامة وتبدل الظروف. والدليل على ذلك أن عمر نفسه غيّر من بعض آرائه عندما تبين له أفضل منها، وغيّر كثيرا من الأحكام قبله للعلة نفسها، وهى تغير المصلحة العامة وتبدل الظروف والمرونة التى يتمتع بها المتن المقدس فى آياته وألفاظه متعددة المعانى حسب قواعد ومعاجم اللغة العربية ومقاصد الدين العامة. لكن هنا يظهر البعض من جديد ويقولون: نحن نقول بذلك! لكن السؤال المتجدد: هل هم يفعلون ما يقولون؟ لو كان فريق المعارضين من عصرنا موجودا فى عصر عمر، ماذا كانوا سيقولون له؟

بالمنطق نفسه الذى يحكم عقولهم الآن كانوا رددوا: كيف تجرؤ على تغيير أحكام سابقة؟ كيف تجرؤ على فهم آية على غير منوال سابق لفهمها؟ كيف تعطل حدا من حدود الله؟ كيف تستحدث نظما فى الحكم والإدارة لم يقل بها الرسول عليه الصلاة والسلام؟ كيف تستحدث نظما ليست موجودة فى القرآن الكريم؟ ألم يقل الله تعالي: (ما فرطنا فى الكتاب من شيء)؟ وطبعا هم يفهمون الآية الأخيرة خطأ لأنهم ببساطة يفسرونها خارج سياقها فى الكتاب الكريم، وخارج السنة الصحيحة المبينة لها. ولنا حولها حديث آخر مطول لا ابتداع فيه، لكن المشكلة تكمن فى الجهالة المطبقة أحيانا، وتكمن أحيانا أخرى فى بنية العقول التى تتركب فيها طرق الاستنتاج تركيب بيت العنكبوت! وتكمن أحيانا ثالثة فى عواطف عمياء تسبح فى بحور من سوء الفهم والتفهم!.


لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت

رابط دائم: