التجديد هو سُنة الخلق والتطور فى حياة الأفراد والمُجتمعات وبتغيُر الظروف والأحوال والنظم السياسية والاقتصادية وتقدُم التكنولوجيا ووسائل الإنتاج والانتقال والاتصال وتتغيرُ الأفكار. فالفكرُ هو اجتهاد بشري، وإعمال للعقل فى الظواهر المُحيطة به بقصد تفسيرها وحَل المشاكل التى تُواجه المُجتمع وابتكار سُبل الارتقاء به.
وينطبق هذا الفهم على مُختلف صور الفكر من سياسى واقتصادى واجتماعي، وينطبقُ أيضًا على الفكر الدينى كونه إعمالا للعقل لفهم النصوص المُقدسة بهدف تأويلها أى تفسيرها وبيان معانيها. وتطور هذا الفكر على مدى القرون الماضية باختلاف الأوضاع التى عاش فيها المُسلمون وعما إذا كانت أوضاع نهضة وتقدُم أم أوضاع ضعف وجمود. ونستطيع أن نفهم أفكار كثير من الفلاسفة والفقهاء المُسلمين فى ضوء الظروف التى عاشوا فيها، وشكل النظم السياسية التى عملوا وكتبوا فى ظلها، وحجم المعارف التى كانوا على بينة منها.
تجديد الفكر إذن هو عملية مُستمرة، ويُمثل عُنصر الحركة والدينامية فى أى مُجتمع ويعود اهتمامى به إلى سنوات طويلة مضت وصدر لى كتاب عام 1975 بعُنوان التجديد فى الفكر المصرى الحديث. والتجديد فى الفكر الدينى له صور وأشكال مُختلفة من أبرزها التعرف على مفاهيم ظهرت فى مجتمعات وثقافات أُخرى وتضمينها ضمن النسق الفكرى السائد فى مصر واسباغ الشرعية عليها وأنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام.
من أبرز العلامات المُضيئة فى هذا الشأن هو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى (1801-1873). فهذا الشيخ الأزهرى العظيم الذى قضى خمس سنوات فى فرنسا واعظًا دينيًا للمبعوثين المصريين هُناك. لم يكتف الرجُل بأداء مهمته الوظيفية التى سافر من أجلها وتولدت لديه رغبة جارفة بالتعرف على هذا المُجتمع الجديد واكتشاف مصادر قوته وازدهاره، فاطلع على الفلسفة الإغريقية والرياضيات والجغرافيا وتاريخ الحضارات ومناهج البحث فى العلوم الاجتماعية. وقرأ كتابات فولتير وراسبين وروسو ومونتسكيو، ودرس أهم تيارات الفكر الفرنسي. وعقب عودته، بدأ فى نقل حصيلة هذه المعارف إلى أهل بلده عبر اشتغاله بالتعليم والتأليف والترجمة والصحافة. وتضمنت كتاباته أفكارًا رائدة وتجديدية فى مُختلف المجالات.
ففى كتابه تخليص» الإبريز فى تلخيص باريز» الذى تقدم به إلى لجنة الامتحان عام 1830 قدم الشيخ عرضا لأهم أفكار الليبرالية وترجم الدستور الفرنسى لعام 1814والتعديلات التى أُدخلت عليه لتحقيق مزيد من الحريات السياسية. وصاغ ذلك بطريقة عبرت عن إعجابه بقيم الحُرية، والمُساواة.
ولم يكُن فى ذلك مُجرد مُترجم أو ناقل بل قام بتحليل مواد الدستور الفرنسي، وقارن بين بعض الأحداث التاريخية التى وقعت فى فرنسا بوقائع مماثلة فى عهد الرسول والخلافة الرشيدة. فى هذا الكتاب كان الطهطاوى أول كاتب مصرى شرح مفهوم الحرية السياسية بمعناه الحديث واستخدم تعبير الإباحة للدلالة على الحرية وقال إن فى بلاد الفرنسيين يباح التعبد بسائر الأديان. وربط بين الحرية وشكل نظام الحُكم القائم وذلك من واقع معايشته لثورة 1830 بفرنسا.
ووصف الصراع السياسى الذى جرى فيها بأنه صراع بين أنصار الملكية المُدافعين عن نظام الملك المُستبد، وأنصار الحُرية المُدافعين عن حق المحكومين فى إدارة شئون البلاد. ومع أنه رجُل دين، فقد سجل الطهطاوى بأمانة وتجرد أن أكثر المؤيدين للملكية كانوا من رجال الدين، وأن أكثر المؤيدين للحُرية كانوا من الفلاسفة والعُلماء.
وناقش فى كتابه مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية عام 1869عددًا من قضايا التطور الاجتماعى والثقافى التى واجهت مصر حتى أن بعض الباحثين اعتبر هذا الكتاب برنامجًا للإصلاح الاجتماعى أو اللبنة الأولى فى علم الاجتماع المصري.من هذه القضايا علاقة البشر بأوطانهم فلاحظ تعلُق الفرنسيين بوطنهم وقارن بين حُب الفرنسيين له وحُب المصريين لدينهم ولكن فهمه للدين لم يقُده إلى التمييز ضد أبناء الوطن من غير الُمسلمين. فكتب أن المصريين ينتسبون إلى سُلالة قبطية واحدة ويشتركون فى البنية والقريحة وكذلك فى التاريخ والجُغرافيا.
وعاد الطهطاوى لمُناقشة قضية الحُرية فى آخر كتاب ألفه بُعنوان المُرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين عام 1873 والذى ميز فيه بين 5 أنواع لها وهي: حُرية طبيعية وتعنى حرية المأكل والتنقل، وحُرية سلوكية وتعنى حُسن أخلاق الفرد وسلوكه النابع من حُكم العقل، وحُرية دينية وتعنى حُرية العقيدة والرأى والمذهب دون الخروج عن أصل الدين، وحرية مدنية وتعنى التضامن بين أفراد المدينة اجتماعيًا، وحرية سياسية وتعنى دور الدولة فى تأمين الفرد وحماية ممتلكاته وحُريته الطبيعية.
ومن الجوانب اللافتة للنظر الموقف المُتقدم الذى تبناه الطهطاوى فى هذا الكتاب تجاه مجموعة من المسائل الاقتصادية. انطلق الشيخُ فى فهمه للاقتصاد من مفهوم المنافع العمومية والتى قصد بها التقدم فى الزراعة والصناعة التجارة. وحلل مصادر الثروة مُركزًا على عنصُر العمل، وحسب قوله فإن العمل هو مصدر الثروة وأساس كُل الغنى والسعادة، ويُضيف أن السلع المتوافرة كالماء مثلًا يُصبح لها قيمة عندما ترتبط بعنصُر العمل. ويضربُ مثلًا على ذلك بقوات الحملة الفرنسية التى كانت تستأجر عُمالًا لنقل الماء من النيل إلى مُعسكراتهم.
وقاد هذا الفهم للعلاقة بين العمل والثروة إلى انتقاده كِبار مُلاك الأرض وأثرياء الصناعيين الذين يحتكروون الأرباح على حساب أولئك الذين يعملون حقًا ولكنهم، أى العُمال، لا يحصلون إلا على أجور بسيطة. فيقول الطهطاوى ان الفلاح يجب أن يحصل على ثمار عمله وإن الربح لا يجب أن يذهب بأكمله إلى مُلاك الأرض. ورفض الحُجة التى بررت أحقية استئثار الملاك بالنصيب الأكبر من الربح بدعوى أنهم استثمروا رءوس أموالهم فى الأرض. ورد على ذلك بأن العمل هو المصدر الأساسى للثروة وأن دور رأس المال أقل أهمية بالمُقارنة له. وبالنسبة لعُمال الصناعة، حذر الطهطاوى من أن الأجور الضئيلة التى يحصلون عليها سوف يكون من شأنها إثارة الحقد والكراهية بين الناس، فمن يزرع الشوك لا يحصد العنب.
تلك شذرات من فكر شيخ أزهرى عظيم عاش مظاهر الحياة الحديثة فلم تدفعه إلى التخلى عن مبادئ عقيدته وفى نفس الوقت قبل منها الكثير مما لا يتناقض مع أُسس الدين ومقاصد الشريعة.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: