رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

غادة الكاميليا

كانت رواية غادة الكاميليا التى ألفها ألكسندر دوماس الابن وترجمها لأول مرة الدكتور أحمد زكى إحدى الروايات التى قرأتها طفلا وتركت فى نفسى أثرا عميقا لا يمحى. ولست فى هذا الباب حالة فريدة. فللرواية تأثير قوى واسع النطاق فى عالم الأدب والفن. تشهد على ذلك كثرة الأعمال التى اقتبست منها أو استلهمتها على نحو أو آخر فى مجالات الأوبرا والسينما والباليه. وليس لدوماس الابن من عمل آخر ينافس غادة الكاميليا فى الشهرة وسعة الانتشار. وأرجو ألا أكون مخطئا إذا قلت إنه ليس هناك من عمل أدبى آخر يناظر الرواية أو يتفوق عليها فى القدرة على اجتذاب المقتبسين والمستلهمين.

فما هو سر جاذبية الرواية واتساع نطاق تأثيرها؟ خطر لى أخيرا أن أبحث عن الإجابة، فشاهدت ثلاثة أفلام لأوبرا لا ترافياتا التى أقتبسها من الرواية الموسيقار الإيطالى فيردى. وحدث فى نفس الفترة أن اكتشفت بالمصادفة أن فيلم «المرأة الجميلة» بطولة جوليا روبرتس وريتشارد جير مقتبس بدوره من رواية دوماس الابن. فكأن غادة الكاميليا أصبحت قوة مستقرة فى أعماق الضمير الفنى الجماعى ولا تفتأ تطفو على السطح فى تنويعات شتى.فما هو السبب؟

من أوجه الاختلاف بين الصورة السينمائية الجديدة (1990) وبين الأصل الذى يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر أن الفيلم على خلاف الرواية ينتهى نهاية سعيدة. فالبطلة فى الحالتين بنت هوى لا تؤمن إلا بالملذات العابرة ولا تحيا إلا لها، ولكنها ويا للمعجزة! - تفتح قلبها ذات يوم لنداء الحب عندما يتقدم إليها عاشق متيم بها، فتهجر حياة الرذيلة من أجله وتخلص له. إلا أن معجزة الحب لا تنقذ غادة الكاميليا من الموت، فى حين أنها تتوج حياة المرأة الجميلة بسعادة الانضمام فى نهاية المطاف إلى حبيبها الأوحد. ونحن نشعر عندئذ بالارتياح لأن الأحداث جرت كما نود لها أن تجرى, فنحن نرجو أن يكون فى العالم مكان للمغفرة (الصفح الجميل) والحب، ونسعد لسعادة المحبين، إذا سعدوا.

وهو ما لم يحدث فى حالة غادة الكاميليا، فحياتها تنتهى نهاية فاجعة عندما تموت وهى فى كنف حبيبها المتيم بسبب إصابتها بمرض السل. وذلك أمر غريب لأن القصة(على الأقل كما عولجت فى أوبرا لاترافياتا) تتردد فيها عبارة تقول «الحب هو ضربات قلب الكون»، وتوحى من ثم بأن للحب قوة فعالة ونافذة فى العالم. فما سبب هذه المفارقة؟ لماذا لم يعمل الحب عمله فى هذه الحالة؟ وهنا على وجه التحديد يخامرنا شعور بعدم الارتياح وخيبة الأمل. فالمرض الذى قضى على البطلة كان سببا عارضا وليس لها ذنب فيه، ولم يكن له من ضرورة فنية، ويبدو أنه يمثل عيبا أو خللا فى بنية الرواية كما ألفها دوماس الابن.

وذلك ما بدا لى حتى قرأت أن ما ورد من ذكر لمرض السل لم يكن إلا طريقة مهذبة أو مخففة للتعبير عن المرض الحقيقى الذى قضى على غادة الكاميليا. وهو ذلك المرض المنقول جنسيا الذى أودى بحياة الفيلسوف نيتشه وبطل رواية أديب لطه حسين. وإذا صح ذلك، كان معناه أن قراء رواية غادة الكاميليا فى القرن التاسع عشر فهموا القصة وتأثروا بها على النحو الصحيح لأنهم أدركوا أن موت البطلة كان نتيجة ضرورية لحياتها الإباحية. وعلى هذا الضوء يمكننا أن نقول إن فيردى أحسن صنعا واقترب من الحقيقة عندما أعاد تسمية الرواية ووضعها تحت عنوان جديد، فهى ليست غادة الكاميليا (أو السيدة صاحبة زهرة الكاميليا كما ينص العنوان الفرنسى) بل هى لا ترافياتا، أى المرأة الضالة. وفيردى عندما غير عنوان القصة على هذا النحو وضع إصبعه ضمنا على السبب الحقيقى لموت البطلة، فهو سبب يمت بصلة ضرورية لحياة الضلال التى عاشتها، ولخروجها عن صراط الاستقامة.

وإذا صح ذلك كان معناه أيضا أن القصة تنتمى أدبيا إلى نوع المأساة وفقا لتعريف أرسطو. فبطل المأساة وفقا لهذا التعريف ليس بالشخص الفاضل النبيل ولا هو بالشخص الشرير، بل هو وسط بين هذين الطرفين مثله مثل معظم الناس. والمأساة تروى مسار هذا البطل من حالة الارتفاع والازدهار الباهر إلى حالة السقوط المروع بسبب خطأ عظيم ارتكبه أو ضعف يشوب شخصيته. ومثل هذه الشروط تنطبق على بطلة الرواية. فهى من الناحية الأخلاقية تحتل بين البشر منزلة وسطا: ليست مثالا للفضيلة، وليست بالشخصية الشريرة؛ بل ان قلبها لا يخلو من طيبة. ومن شأن هذا المصير المأساوى أن يثير فينا مشاعر الخوف والشفقة. الخوف لأننا نشارك البطلة ضعفها، ونحن مثلها معرضون لارتكاب الخطأ؛ والشفقة لأننا نريد لها أن تنجو رغم كل شيء ورغم انعدام سبل النجاة.

وذلك هو أحد الأسباب التى تفسر قوة العمل وقدرته على اجتذاب المعجبين والمبدعين، ولا سيما من كان منهم قد فهم القصة على الوجه الصحيح. فالعمل عندئذ يخرج عن النطاق الفيردى ويقدم صورة للإنسان فى تأرجحه بين الخير والشر؛بين ممارسة الحرية والبحث عن السعادة، وبين الخضوع لحكم الضرورة الصارم. وهناك فى رأيى أسباب أخرى، ومن أهمها أن بطلة المأساة تدرك من ناحية أنها لا بد ذاهبة إلى حتفها، ولكنها ترجو من ناحية أخرى أن تقع المعجزة فتنجو. ومن ثم كان تقلبها فى أواخر القصة (عند اقتراب الموت) بين اليأس والرجاء. وهنالك عندئذ لحظات فريدة تنتعش فيها وتتألق قبل الانهيار الأخير وكأنها النجم عندما يتوهج قبل أن يهوى. وهى لحظات تتيح فرصة بديعة للموسيقى الرائعة والغناء الآسر.

ولا يفوتنى فى هذا الصدد أن أنوه بالمعالجة الأوبرالية التى أحرزت فى تقديرى أعلى درجة من النجاح من بين العروض المختلفة التى شهدتها لأوبرا فيردى. وأعنى بذلك إلمعالجة التى أخرجها ويللى دكر، ومثلت فيها دور البطولة أنا نتربكو. ولا يعيب هذه المعالجة فى نظرى إلا أن الديكور جاء تجريديا، وألقى بالعبء كله على الغناء والتمثيل. ولكن من حسن الحظ أن الغناء والتمثيل كما أدتهما أنا نتربكو نهضا بالعبء، كما ينبغى. فقد تميز أداؤها بالانسجام الكامل بين الجانبين. فنحن نشعر فى حالتها بأن الغناء الأوبرالى مع كل ما يقتضيه من جهد وصنعة لا يعيبه ما يعيب الأداء الأوبرالى أحيانا من تصنع وتفاوت فيما بينه وبين التمثيل. يضاف إلى ذلك وهذه نقطة مهمة, أن التمثيل فى هذه الحالة يؤكد جانب الطيبة والعذوبة فى شخصية المرأة الضالة بحيث نتعاطف معها ونتمنى لها النجاة رغم كل شيء. فنحن عندما نراها مثلا تلعب الاستغماية مع حبيبها تبرز أمامنا صورة الفتاة البريئة التى تثير فينا ما يشبه العطف الأبوى، لأنها فى نهاية المطاف لا تريد إلا ما تريده كل فتاة، وهو أن تنعم بحياة من الحب والسعادة. ولكن هيهات.


لمزيد من مقالات عبد الرشيد محمودى

رابط دائم: