رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شوبنهاور والسخرية المريرة

الفلسفة مهمتها أن تقول الحقيقة بلا تجميل ولا مجاملة. هذا ماكان يعتقده شوبنهاور الفيلسوف الألمانى الذى عاش فى النصف الأول من القرن التاسع عشر. كما كان يعتقد أنه هو الشخص المؤهل لأداء هذه المهمة، لأنه لا يقوم بالتدريس فى الجامعة ويعيش من عمله فى التجارة ولا ينتظر ربحا من الكتابة فى الفلسفة. وفى نظره لا سبيل لقول الحق من خلال تدريس الفلسفة فى الجامعة، فبعد تقوى الله وخشية الحكومة ومجاملة رئيس الجامعة ومراعاة مستوى وعى الطلاب وتنفيذ توصيات الناشر، لا يبقى هناك أى مجال لإعلان أى حقيقة. ولهذا كان قاسيا فى نقده على معاصريه من الفلاسفة الألمان الكبار الذين يدرسون بالجامعات.

الحقيقة الكبرى التى سعى شوبنهاور لإثباتها هى أن العالم سقيم وبلا معنى ولا يستحق عناء العيش فيه ليس بالنسبة للإنسان فقط، ولكن أيضا بالنسبة لباقى الكائنات الحية. الطبيعة تتحكم فى الكائنات الأخرى بواسطة الغريزة وتدفعها بذلك دفعا إلى التناسل وحفظ النوع، ولكن للإنسان عقلا قادرا على اكتشاف أن الحياة مهزلة كبرى لاداعى لاستمرارها وفرض هذا المصير العبثى على الأجيال القادمة. ولكى تنجح الطبيعة فى دفع الإنسان إلى التناسل وحفظ النوع اخترعت عاطفة الحب التى تدفع البشر إلى الزواج والإنجاب. لم يتزوج شوبنهاور وكان يفخر بذلك معلنا أنه قد تفادى الفخ الذى نصبته له الطبيعة. فالزواج فى نظره يعنى أن تفقد نصف حقوقك وتضاعف واجباتك. ولهذا اشتهر شوبنهاور بأنه فيلسوف التشاؤم وهى التسمية التى جعلت منه قطبا مضادا لليبنتز فيلسوف التفاؤل الذى حاول اقناعنا بأننا نعيش فى أفضل العوالم الممكنة، تلك الفكرة التى سخر منها فولتير فى رواية كانديد، أما شوبنهاور فيرى أننا نعيش فى أسوأ العوالم الممكنة، فالحياة فيه كما يقول مثل بندول يتراوح يمينا ويسارا بين المعاناة والملل. والسعادة فى نظره وهم نجرى وراءه وما أن يتحقق حتى نشعر بالضجر. الإنسان العادى يبحث عن السعادة فى خارجه، أى فى الحصول على الثروة والسلطة والحب، فى حين أن الحكيم يبحث عنها فى داخله، وتتمثل لديه فى تجنب الشرور والآلام وليس فى السعى وراء الملذات.ت

الوحدة واعتزال الناس خير كبير، فالبشر يصبحون اجتماعيين لأنهم لا يحتملون أن يبقوا مع أنفسهم ولو للحظات، لأنك مع الآخرين تنسى حقيقة نفسك. اقترن هذا التصور السلبى للحياة بتصور سلبى للطبيعة الإنسانية، فالبشر أنانيون ومنافقون إذ يزعم الأصدقاء أنهم مخلصون فى حين أن الأعداء وحدهم هم المخلصون. وبسبب العذاب الذى يعيش فيه الناس يميلون لممارسة التعذيب ضد الآخرين من البشر والحيوانات. ولكى يبين شوبنهاور أبعاد الطبيعة الإنسانية يقول: الطبيب يرى الإنسان فى ضعفه والقاضى يراه فى شره ورجل الدين يراه فى قلة عقله. والناس لا يهمهم اكتشاف الحقيقة ولكنهم يحولون حوارهم إلى مبارزة فكرية تنتهى بمنتصر ومهزوم، وقد كتب فى ذلك كتابا عنوانه «فن أن تكون دائما على حق» يقدم فيه للقارئ مجموعة من الحيل التى يجدر به أن يستخدمها إذا دخل فى حوار أو على الأقل يتفادى الوقوع فى حبائلها حينما يستخدمها الخصم . والخلاصة أن البشر لا يشغلهم معرفة الحقيقة ويفضلون عليها الشعور بالزهو والانتصار.

فى داخل الإنسان يدور صراع بين العقل والإرادة. الإرادة هى مندوبة الطبيعة التى تخضع الإنسان بطريقة لاواعية لمقتضياتها، أما العقل فهو مشغول بالبحث عن معنى لعالم بلا معنى، والميتافيزيقا تقوم بهذا الدور بالنسبة للنخبة، والدين يقوم به بالنسبة للجماهير. هذا التصور جعل شوبنهاور من أوائل من تعرضوا لفكرة اللاوعى، فيلاحظ أننا حينما نقوم بجمع مبالغ من المال قد يحدث أن نخطئ عن غير قصد ولكن فى الغالب يكون الخطأ لمصلحتنا، وقد صرح ديستوفسكى وفرويد بتأثرهما بفلسفة شوبنهاور وقد يرى البعض أن هذه النظرة المتشائمة جاءت انعكاسا لحياة شوبنهاور نفسها والتى كانت مليئة بالمآسى خصوصا خصامه المبكر مع أمه الكاتبة المشهورة. هم على حق ولكن هذا لا ينفى براعة شوبنهاور فى أن يستخلص من حياته الخاصة نظرات ملهمة للجميع، وهو القائل: القدر هو الذى يوزع الورق ونحن اللاعبون، أى أن ظروفنا العائلية والبيئية والطبقية لا نختارها لكنها بمنزلة أوراق نلعب بها فى مواجهة الحياة. وضوح الأفكار وجمال الأسلوب والسخرية اللاذعة جعلت لفلسفة شوبنهاور شعبية كبيرة. ويعد شوبنهاور الآن فيلسوفا كبيرا يهب الهدوء والسكينة للنفوس المضطربة، إذ أن نظرته المتشائمة التى تستهين بالحياة فى كل مظاهرها تجعل الإنسان يتعالى على الأزمات ويراها فى حجمها الضئيل، كما أن تعريفه للسعادة بوصفها نوعا من السلام الداخلى جعلها هدفا سهل المنال إذا ما تحلى المرء بقليل من النزاهة والحكمة.


لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث

رابط دائم: