عندما حملت به أمه مات أبوه مقتولا، وبعد ولادته بأسبوع ماتت أمه بلدغة أفعي، فوضعت خالته رأسه فى بطن غزال ليشرب دمه، ثم توفيت خالته وزوجها فى الصحراء، فأنقذه أحد رجال القوافل المارة يدعى آدم، وفى إحدى الرحلات عرضه آدم على أحد السحرة، فقال: من فطم على دم الغزال فى الصغر لن يستقيم حتى يشبع من لحم آدم فى الكبر. دهش آدم، وصاح بالساحر: يشبع من لحمى أنا؟!. هكذا يصور الروائى الليبى الكبير إبراهيم الكونى شخصية قابيل فى روايته (نزيف الحجر).
قابيل منذ ولادته سيئ الطالع، نزق قاس، شهيته وحشية لا تشبع من لحوم حيوانات الصحراء الليبية، خاصة الغزلان والودان (التيس الجبلي) النادر، وكأنه لعنة شيطانية شر خالص يصيب كل من يخالطه، بل إنه يساعد الغرباء فى انتهاك قدسية أرض وطنه، جالبا الخراب والدمار للصحراء، لاسيما بعد مجيء شركات النفط والبحرية الأمريكية، حيث زوده الضابط جون باركر بالتقنيات الحديثة للصيد، بنادق وسيارة لاندروفر وطائرة مروحية، اصطاد الغزلان إلى حد الإفناء استجابة لنهمه، ويعطى الفائض للأمريكى وكذا الإيطالى المحتل.
تجسد الرواية الصراع الأزلى بين الخير والشر، قابيل رمز الاعتداء والقتل، مقابل (أسوف) بطل الرواية الذى يحترم قدسية الحياة ويحافظ على حيوانات الصحراء من الاعتداء. وخلال بحث قابيل عن الودان يلتقى أسوف، ويطلب منه أن يعلمه بمكان الودان، لكن أسوف الذى قطع عهدا على نفسه ألا يصطاد الودان أو يأكل اللحم، يضلل قابيل عن مكان الحيوانات، وبعد يومين من المراوغة، يقوم قابيل بصلب أسوف على تمثال الكاهن والودان ويجز رأسه، وكانت آخر كلمات أسوف: لا يشبع ابن ادم إلا التراب، تقاطرت خيوط الدم على اللوح الحجري، الذى كُتب عليه: استمر نزيف الحجر على اللوح المحفوظ فى حضن الرمال.
يستلهم الكونى قصة قابيل وهابيل فى ملحمة أسطورية على مسرح الزمن، فى ليبيا، على مرأى من القدر المحتوم، حيث الصحراء الكبرى القاحلة بمفاوزها ومتاهاتها، عبر دول إفريقية، فضاء لامتناه من الرمال الحارقة والصخور الوحشية وأشجار الشوك والشمس الجهنمية، إنها صحراء الطوارق، بهدوئها وغضبها، بصفائها وعتمتها، أمانها وغدرها، صحراء حبلى بالأسرار الغامضة، مطرزة بالدهشة والجمال الأبدى وضجيج الصمت والأوجاع والمخاوف، بيئة ثرية بتنوعها العرقى والدينى والثقافى والحضاري، عرب وأمازيغ أو بربر وزنوج، وقوافل الطامعين المتربصين.
يوحد إبراهيم الكونى بين الواقعى والأسطوري، ويضعنا فى مواجهة الطابع المتناقض للإنسان: الجليل والدنيء، البهى والقبيح، البريء والقاتل. يهزنا من الأعماق فى عصر امتهن فيه زعماؤه حرفة إشعال الحروب وسفك الدماء؛ لماذا أباد قابيل اللقيط الغزلان، وكيف يقوده نهمه للحم إلى ذبح أخيه فى الإنسانية، بل كيف تجمع غرائز الصياد والشهوات الإجرامية بين قابيل والأمريكى باركر دارس الاستشراق والتصوف والفلسفات الشرقية، ولماذا كان الضحية هو «أسوف» حارس رسوم الأسلاف الذى يعيش مع الوحوش معتزلا الناس، ولم يعاشر أنثى أو يحمل سلاحا.
تصور الرواية الصحراء الليبية، فى حقبة الاحتلال الإيطالى والتنافس الاستعمارى على ثرواتها، متكئا إلى أبنية غرائبية طوطمية، خيال يحلق بأجنحة حلمية، فى لغة تفيض بحمولات ذات أفق كوني، تكشف عن خطيئة قديمة متجددة تنطبع على الصخور؛ طمع الإنسان فيما بأيدى الآخرين يقوده إلى هاوية تدمير الطبيعة وسحق الأرواح والإخلال بانسجام الكون. يصف الشيخ القادرى قابيل: إنه يأكل نفسه إذا لم يجد لحما يأكله، فى حين يخاطب الكابتن الأمريكى مستنكرا جرائمه: كيف تدعى الإيمان بدين المسيح وهو بريء من أفعالك؟! قانون الصراع روح عارية ترصّع المتن الروائى وتستنطق حقائق الوجود، تستلهم الماضى وتفك مغاليق الحاضر وتستشرف المستقبل. اليوم، ليبيا وما حولها، مهددة بغزو جديد، التصورات العتيقة لا تجدى مع جشع الطامعين أوروبيين وأمريكيين وروس وأتراك باعوا ليبيا، قديما، لإيطاليا بجزيرة، كلهم يريدون نهش الودان/النفط والغاز الليبي، فيجدون من يدعو جيوشهم لأرض المختار، متلفعة بقوافل القتلة الإرهابيين. زيارات محمومة بين عواصم القرار، تسخين على كل الجبهات: ليبيا، سوريا، العراق، لبنان، اليمن، السودان، إيران، إلخ، بالتزامن مع (صفقة القرن)، هل هذه مصادفة؟. قابيل يمارس هوايته، أمر كبير يجرى لإعادة هندسة الشرق الأوسط بالإكراه، رعب أكثر سوف يجيء. براءة أسوف ليس هذا أوانها، العرب غافلون أو مشاركون. قليلون حول مصر، لكن المحروسة قوية واعية، عليها أن تحترس وتبادر، حتى لا يستمر نزيف الحجر والبشر!.
[email protected]لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن رابط دائم: