رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الفن القبطى فى الهوية المصرية

يقول الكاتب ميلان هوبل فى كتابه الضحك والنسيان: إن أردت أن تلغى شعبا ابدأ أولا بشل ذاكرته، ثم تلغى كتبه وثقافاته وتاريخه، ثم يكتب طرف آخر كتبا أخرى، ويعطيه ثقافة أخرى، ويخترع له تاريخا آخر... عندها ينسى هذا الشعب من كان وماذا كان والعالم ينساه أيضا.

ونحن نواجه فى زماننا حروبا ثقافية واستعمارا كيانيا أكثر منه استعمارا مكانيا، وحتى يتم هذا لابد أن تمسح هوية الشعوب ويكون الانتماء ليس للأوطان ولا الحضارات بل للثقافة الجديدة التى تريد أن تتحكم فى الشعوب عن بعد.

ونحن شعب عميق الجذور، عظيم الحضارة، أثره فى البشرية لا يمحى، فالهوية المصرية هى مزيج عالى القيمة من الأجداد القدماء، ثم الأقباط، ثم بعد دخول العرب امتزجت الدماء العربية بالمصريين الأقباط دون أن تفقد الهوية المصرية ملامحها. والأقباط هنا لا تعنى ديانة كما يظن البعض ولكنها تعنى مصر.

ومنذ القرن الأول استقبلت مصر المسيحية بقوة كبيرة حتى أصبحت كنيسة مصر هى منارة العالم المسيحى فى العالم فامتزجت الحضارة المصرية بالمسيحية. ثم بعد دخول العرب مصر امتزجت الحضارة المصرية والشخصية المصرية أيضا بالعنصر الإسلامى فصارت مصر تحمل هوية عميقة لا يمكن أبدا أن تمحى.

والفن هو أحد صور التعبير الحضارى، فالرسم والنحت والبناء والموسيقى والفكر والكتابة هى بصمات حضارة الشعوب عبر الزمان. والفن المصرى القديم هو أول فن تعبيرى فى تاريخ البشرية، فالعالم العظيم تحوت هو من أبدع الأبجدية على هيئة صور ترمز إلى حروف ونطق. كما أن التعبير الفنى المصرى هو أول خطوط ورسوم عرفتها البشرية وكانت ترسم على المقابر والجدران فى المعابد، تصف حالة الإيمان أو توثق التاريخ، واستخدموا أنواعا من الأكاسيد والألوان لا تزال قائمة إلى اليوم وبعد آلاف السنين.

ويقول عالم القبطيات بيير برجيه: إن الفن القبطى هو فن له خصوصية واضحة، وبدون منازع يحتل مكانة أولى كفن أصيل وشاهد حضارى يمثل الشخصية المصرية القديمة، وهو يمثل حلقة الوصل فى استمرارية هذه الفنون المصرية.

وقد ورث الأقباط عن أجدادهم طريقة الرسم التى على المعابد ونقلوها على الكنائس، وطريقة الموسيقى الروحية ونقلوها إلى الألحان الكنسية. كما ورثوا أيضا بناء الكنائس التى تشبه المعابد المصرية القديمة. والأيقونة القبطية هى إحدى صور الفن وهى تعنى لوحة تصويرية لحادث دينى أو صورة للسيد المسيح أو السيدة العذراء أو أحد القديسين.

والفن القبطى له ملامح خاصة بعيدة عن الزخرفة، لأنه نشأ فى الأديرة فى القرن الثالث فكان فنا شعبيا بيد رهبان لا يميلون إلى الزخارف فى حياتهم العامة، بل كانت الألوان زاهية والخطوط حادة علامة على جدية الحياة، والعيون واسعة علامة الاستنارة، وكانت الوجوه مشرقة وفرحة دائما علامة على السلام الداخلى.

ولا تزال الأديرة تحتفظ بأيقونات على جدران الكنائس الأثرية نرى فيها هذه الملامح، كما يوجد فى متحف اللوفر أيقونة من القرن السادس للقديس مينا أب رهبنة دير سقارة والسيد المسيح، وفى القرن العاشر كان البابا مقارة البابا التاسع والخمسون فنانا ورسم أيقونات كثيرة، كما كان أيضا البابا غبريال الناسخ فى القرن الثالث عشر وقد رسم أيقونات فى الأناجيل التى كان ينسخها.

وفى عصر النهضة فى أوروبا بدأت نهضة فنية، ثم تلاه عصر الباروك الذى اهتم بالزخارف والتفاصيل وأضفى على اللوحات عامل الحركة، ثم تلاه عصور أخرى فنية. ولكن هذا أثر على الشرق أيضا وعلى الأيقونات خاصة فى القدس، فقد بدأت مدارس فنية لرسم الأيقونات تمزج بين الفن البيزنطى والأوروبى اهتمت بالزخارف. وانتقلت إلى مصر فى القرنين السابع عشر والثامن عشر عن طريق مجموعة فنانين منهم يوحنا الناسخ وبغدادى أبو السعد ويوحنا الأرمنى وأنسطاس الرومى. ولكن عادت مجموعة فنانين فى النصف الثانى من القرن العشرين إلى أحياء الفن القبطى القديم وخاصة الفنان إيزاك فانوس الذى تتلمذ على يد الفنان راغب عياد وسافر إلى فرنسا ودرس هناك ثم عاد وتبنى مجموعة من الفنانين أعادوا الحياة للفن القبطى من جديد.

ولا يظن أحد أن الفن القبطى يخص المسيحيين فقط بل يخص كل المصريين فيقول د. محمد شفيق غربال فى كتابه تكوين مصر: إن طرائق الفن القبطى وأساليبه كانت عاملا من العوامل المؤثرة فى فنون مصر الإسلامية وصناعاتها وهذا دليل على أهمية العصر القبطى فى تكوين الشخصية المصرية. فحضارة المبانى المصرية القديمة يقول عنها المؤرخ الإغريقى سترابو: بنى الإغريق معابد لهيرا وأبولو وأفروديت على نفس الطراز الفرعونى، وقد تأثرت أيضا عمارة المساجد بالفن القبطى، فالمحراب والمئذنة من التأثيرات القبطية على العمارة الإسلامية.

ويقول البلاذرى فى كتاب فتوح البلدان: إن الوليد استعان بالأقباط فى إعادة بناء مساجد دمشق والمسجد الأقصى، وعهد عمر بن عبد العزيز إلى معماريين أقباط لبناء الجامع النبوى.

إلى جانب هذا فقد اشتهر الأقباط بفن النسيج، فالنسيج المسمى القباطى نسبة إلى الأقباط كان يصدر فى القرون الأولى الميلادية إلى كل العالم، ويذكر أبو المحاسن فى كتابه النجوم الزاهرة: أن الحاكم بأمر اللـه أرسل كسوة الكعبة من النسيج القباطى، وحرص الفاطميون على هذا. وظلت تلك العادة قائمة حتى عام 1963م آخر موكب للمحمل وكان بقيادة اللواء القبطى رزق الفسخانى.

الفترة القبطية فترة غير قليلة ومهمة فى التحول الثقافى والفنى والاجتماعى التى مرت على الشخصية المصرية فكثير من أمورنا التراثية لها عمق هذه الفترة من عادات وكلمات ومصطلحات وموسيقى وفن، فعيد الغطاس وما كان يحمله من عادات اجتماعية واحتفالات، وعيد شم النسيم، وكلماتنا القبطية المتغلغلة فى لغاتنا اليومية أكبر شاهد على التأثير القبطى على الشخصية المصرية، فعلى سبيل المثال (سك الباب - أقفل خشمك - هلفوت - هجامى - فتك - مافيش - يتسرسب - فركش - الحمش - زيطة). هذا كله هو الذى كون هوية المصريين الغنية بكل ما فيها.


لمزيد من مقالات القمص. أنجيلوس جرجس

رابط دائم: