يعتبر فرناندو بيسوا (1888 1983) واحدا من أكبر شعراء العالم فى كل العصور، وعلى الرغم من كثافة إنتاجه الشعرى، إلا أن اسمه قد ارتبط بهذا العمل الضخم «كتاب اللاطمأنينة» الذى انجزه على مدى عشرين عاماً من 1913 حتى وفاته 1935، توفى بيسوا قبل ان يراه منشوراً بشكل مكتمل ولم يظهر فى طبعته الأولى فى لشبونة إلا فى عام 1982.
.......................
من الصعب الالمام بهذا العمل الضخم، الذى يبلغ فى نسخته العربية 560 صفحة، صدر عن اثنتين من دور النشر العربية ونهض بجهد ترجمته الشاعر والكاتب المغربى المهدى اخريف، المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء المغربى، والمركز القومى للترجمة. القاهرة 2008، إلا أن قراءة هذا الكتاب يجعل القارئ يدرك مغزى عنوان العمل، كتاب اللاطمأنينة، ويجعله يتساءل ما الذى تجعل بيسوا يعيش ويكتب فى حالة اللاطمأنينة؟
ولذلك فان هذا المقال سوف يحاول الإجابة عن هذا السؤال المركزى من خلال التوقف عند شذرات من هذا الكتاب التى تفسر هذا السؤال.
ويفتح بيسوا كتابه بالتعبير عن خبرته الوجودية «عندما جاء الجيل الذى أنتمى اليه إلى الوجود لم أجد أى سند عملى أو روحى، ذلك ان العمل المهم الذى قامت به الاجيال السابقة جعل العالم الذى ولدنا مفتقراً إلى الامان الدينى والى الدعم الأخلاقى وإلى الاستقرار السياسى، لقد ولدنا إذن فى أوج القلق، إلى الميتافزيقى الروحى وفى أوج اللاطمانينة السياسية..» وهو التقييم الذى أوصله إلى القول: «عالم اليوم هو عالم البلهاء، وعديمى الإحساس، المهيجين، فالحق فى العيش وفى النجاح يتم اليوم بالمبررات نفسها التى يتم بها الحجز فى المصحات الامراض العقلية». وهو يشكك فى عمله وخواطره ويعتبر انها تفتقر» إلى الترابط او الرغبة فى اى ترابط، اسرد بلا أى اكتراث سيرتى الحالية من الافعال، تاريخى الذى بلا حياه، إنها اعترافاتى الخاطئة، واذا لم اقل شيئا ذا قيمة فلأنه ليس لدى ما أقوله».
وعن القراءة وقراءاته فهو يعترف «امقت القراءة. اشعر بضجر مسبق من الصفحات المجهولة، لا أستطيع ان اقرأ إلا ما أعرف» اماماً يعرفه والكتاب الذى يحتل الصدارة عنده فهو كتاب « بلاغية الأدب فيجربدو الذى أقراه كل ليلة مفتتاً بالوصف والاسلوب المثقف لراهب برتغالى عاش فى القرن الثامن عشر.
اما مشهد المطر فهو يرى» فى كل قطرة مطر تبكى حياتى الفاشلة.. ثمه شيء من قلقى فى كل ما يتفطر فى كل ما تصبه من كآة النهار بلا جدوى على الارض. مطر كثير كثير من سماعه تتغلغل الرطوبة إلى روحى»، اما عن متطلباته فى الحياه فهو « لم اطلب سوى القليل من الحياة، وحتى ذلك القليل رفضته الحياة منحه اياه، حزمة من ضوء الشمس القليل من السكينة مع القليل من الخبز، ألا تثقل على كثيراً معرفتى بأنى موجود، وألا اطلب من الآخرين شيئا وألا يطالبونى هم بأى شئ.. اكتب هذا مكتئباً فى غرفتى الهادئة. وحدى مثلما كنت، وحدى مثلماً سأكون؟؟.
أما أيامه»... فهى بذاتها فلسفات، الايام تودع فينا فلسفات الحياه، ايام هى ملاحظات هامشية مفعمة بأعظم نقد فى كتاب قدرنا الكونى. هذا يوم أحسه شبيها بتلك الايام، يبدو لى غير معقول ان تجرى بعينى الثقيلتين ودماغى الباطل، بالقلم الفارغ أخط به حروف التعليق اللا مجد والعميق» بل ان الكون كله يبدو من حوله «عارياً مجردا صنعته مفاوضات ليلية، انشطر إلى شطرتين: منهوك وقلق» وهو يرى ان هذا لا يقتصر عليه بل إن «اغلب الرجال، ان لم يكن جميعهم يحيا حياة حقيرة، حقيرة فى كل افراحها، حقيرة،، حقيرة فى كل أفراطها، حقيرة فى كل آلامها تقريباً، بآستثناء تلك المتعلقة، بالموت، حيث يتدخل السر وتفقد الحياه ذاتها حقيقتها» ويجعله هذا «احس بيرودة حتى العظام كما لو كنت خائفا، وأبكى فى تكتم، فارغاً، إنسانياً، مع ذاتى وحدها، وفى القليل من الضباب المتبقى لى، ابكى، أجل، ابكى من العزلة ومن الحياة» اما عن السأم والضجر، فهو ليس كما يقولون مرض الخاملين أو انه يصيب فقط أولئك الذين ليس لديهم ما يفعلون، غير أن هذا المرض «أدق وأخص فى الحقيقة، انه يصيب من لديهم قابلية للاصابة به وهو اقل رأفة بالعاملين أو المتظاهرين بالعمل مقارنة بالخاملين الحقيقيين» وهو لا يعنى الضجر»ذلك الضجر الناجم عن عدم الرغبة لى عمل شىء وانما اعنى ذلك المرضى الاعظم المتخيل بالاحساس بألاشىء يستحق منا اى مجهود. وبذلك كلما دعت الحاجة إلى مزيد من المجهود كان الاحساس بالضجر أكبر» ويرتبط بهذا الاعتراض بالفشل» اعترف اليوم انى فشلت، اندهش احياناً لكونى لم اتوقع فشلى هذا، فماذا كان لدى من المؤهلات تسمح بتوقع النجاح؟ فلم امتلك القوة العمياء للناجحين او الرؤية الثاقبة للمجانين» ويتناقض مع الفشل توقع ان يحظى بالاعجاب، ولكن «ان المنى دائما لامبالاة الغير باعتبارى يتيماً من يتامى الحظ.. وقد عانيت دوما من عدم تحقيق هذه الحاجة.. بهذا او بدونه تؤلمنى الحياة..» ودفعة هذا إلى اعتبار نفسه « من قبل الجميع دخيلاً، أوعلى الأقل شاذا على الدوام، ودائما بين الاقارب مثلما وسط المعارف عوملت كما لو كنت أجنبياً...»
وهكذا نشر هذه الشذرات المقتطفة من كتاب اللاطمأنينة انه كتاب استثنائى، يحتاج للتوصل إلى أعماقه قراءته عدة مرات وعلى عدة مستويات، فهو كتاب يوميات ولكن ليس ككل كتاب آخر لليوميات، هو كتاب يرقى إلى مصاف الشعر والتأمل العميق، ولكن الطابع الغالب على الكتاب هو السوداوية والاحساس بالإنهاك وان حياته « كئيبة جداً وأوقاته مزيفة..»
رابط دائم: