أقر القرآن الكريم الكرامة الإنسانية منذ بدء الخليقة لبنى آدم ـ بالمطلق ـ بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم وأعراقهم وأصولهم ولغاتهم وأديانهم، فقال تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا»، مما يدل على أن الحفاوة القرآنية بتكريم الإنسان ليست من نصيب المسلمين دون غيرهم كما يتصور بعض الناس، لكنها تشمل الجميع، لذا جاءت الخطابات عامة.
وكما يوضح الدكتور عبد المنعم أحمد سلطان رئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق بالمنوفية، فإن هذا التكريم يكتسب قيمته من حيث مصدره وهو الله سبحانه تعالى وهو الأساس الذى تقوم عليه العلاقات بين البشر جميعا. وأشار إلى أن الكرامة الإنسانية تمثل سياجا من الصيانة والحصانة التى يصون بها الإسلام دماء الأفراد أن تسفك، والأعراض أن تنتهك، والمال أن يغتصب، والمساكن أن تقتحم، والنسب أن يبدل، والوطن أن يخرج منه،...إلخ .وهكذا يدعو الإسلام إلى حماية الإنسان باحترام عقله واحترام حقه فى الأمن على نفسه وماله وذريته، ومن أجل هذه الحماية الإلهية للإنسانية حددت الشريعة لنفسها مقاصد خمسة لتأكيد هذه الحماية، وهى حفظ المال والنفس والنسل والعقل، وهذا يدلنا على أن الكرامة الإنسانية المطلقة تعد أساسا للمواطنة والتعايش السلمى بين الناس جميعا.
ولفت إلى أن هذا التأكيد القرآنى بتكريم الإنسان يعد من أولى الدعامات التى أقرها الإسلام كأساس من أسس المواطنة. فالإسلام يدعو إلى التعايش مع الجميع، المسلمين وغير المسلمين، كما يدعو إلى الإيمان بكل الرسالات السماوية السابقة وبالرسل جميعا، وإذا حدث سلوك يتنافى مع قيم الإسلام السمحة فهو مردود على صاحبه، بمعيار الإسلام الصحيح، يحاسب عليه نفسه، لقوله تعالى «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». فالإسلام دين سلام وعقيدة حب، وليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إّذا سالموهم، فليس الإسلام براغب فى الخصومة ولا متطوع بها كذلك، وهو حتى فى حالة الخصومة يستبقى أسباب الود فى النفوس باستقامة السلوك وعدالة المعاملة، تطبيقا للمبدأ القرآنى «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي».
وأوضح أن الإسلام شرع للمؤمنين التعايش مع مخالفيهم فى الدين على أساس من الود، وأمرهم ببرهم، وتحرى العدل فى معاملاتهم، .كما رسخ قواعد التعايش السلمى مع أهل الملل والديانات الأخرى تحت راية السلام الاجتماعى فى عدة جوانب، منها:
ـ إباحة التعامل مع غير المسلمين فى كل الأمور الحياتية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وأخذ وعطاء، وبيع وشراء، وجوار، وفق الحقوق و الواجبات التى شرعها الإسلام.
ـ تطبيق مبدأ احترام الإنسانية بين البشر جميعا وتذويب الفوارق، وإزالة الحواجز والطبقات بين الناس باعتبارهم من أصل واحد يرجع إليه الجميع، فلا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود،ولا مكان لطبقية ولا عنصرية، ليعلم الناس جميعا أن أكرمهم عند الله أتقاهم.
ـ معاملة غير المسلمين معاملة حسنة تتسم بالإنسانية والمودة والعدل والرحمة، وذلك لأنه دين الرحمة الشاملة والسلام الكامل، فالرسالة الإسلامية جاءت رحمة لكل الناس بصرف النظر عن عقائدهم وأجناسهم، كما يؤكد القرآن الكريم “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
وأشار إلى أن أساس قواعد التعايش بين المسلمين وغيرهم يكمن فى اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان أيا كان دينه أو جنسه أو لونه، واعتقاده أن اختلاف الناس فى الدين واقع بمشيئة الله تعالى الذى منح خلقه هذا النوع من الحرية والاختيار فيما يفعلون لقوله تعالى “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، وقوله أيضا “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين”..فالمسلم الحق يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب، كما أنه سبحانه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة ـ علم الناس ذلك أو جهلوه ـ ولهذا لا يفكر مسلم يفقه دينه أن يجبر الناس ليصيروا كلهم مسلمين..كيف وقد قال الله تعالى “ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”. هذا بالإضافة إلى أن المسلم ليس مكلفا بأن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالتهم، فهذا ليس له، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم على الله تعالى يوم الحساب.
التعايش أساس المواطنة
وأضاف أن القرآن يعد مبدأ التعايش السلمى بين الناس جميعا هو أساس المواطنة فى الفقه الإسلامي. وتؤكد ذلك أيضا السنة النبوية من خلال المعاهدات والاتفاقات التى أبرمها النبى صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصاري، فضلا عن وصيته صلى الله عليه وسلم بأهل الكتاب خيرا، ومن هذه المعاهدات عهد النبى مع بنى ضمرة من قبائل العرب. وفى هجرته إلى المدينة، عاهد صلى الله عليه وسلم اليهود على حسن الجوار أول ما استقر بهم المقام فى المدينة، حيث كتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، ودلت الوثيقة (وثيقة المدينة) على تساوى جميع أفراد الدولة فى الحقوق والكرامة، وحماية من أراد العيش مع المسلمين مسالما متعاونا والامتناع عن ظلمهم والبغى عليهم، وأن لغير المسلمين دينهم وأموالهم، ولا يجبرون على دين الإسلام، ولا تؤخذ منهم أموالهم...والمجتمع ككل يقوم على أساس التعاون على البر والتقوي، لا على الإثم والعدوان.
النبى القدوة
وقد تعامل النبى صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين كما تعامل مع المسلمين من بيع وشراء وهبة وإيحار واستئجار ووديعة وغيرها، وقد كان من المشركين فى مكة من يودع أمانته عند رسول الله، وروى عن عائشة رضى الله عنها أن النبى رهن درعه عند يهودي.
وقد وردت أحاديث عدة تحض على صلة الأرحام وبر الوالدين والإخوة والأخوات وسائر الأقارب من غير المسلمين، منها ما ورد عن أسماء بنت أبى بكر أنها قالت: أتتنى أمى راغبة فى عهد النبى فسألت النبى أصلها؟، قال: نعم، وهذا يعد من أسس المواطنة.
كما تعد وثيقة المدينة التى أرساها النبى عند الهجرة دستورا عالميا فريدا من نوعه، يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة فى الداخل والخارج، أما التفصيلات وما يستجد من وقائع فيترك بيان الحكم الشرعى فيه لاجتهاد الفقهاء، وبذلك كانت هذه الوثيقة خطوة حضارية متقدمة تجاوزت فى بعدها القانونى والاجتماعى كل الأزمان، لاسيما زماننا الحالى الذى ما زالت بعض الدول ترى فيه الانتماء القبلى والأسرى والمذهبى والعرقى هو المواطنة.
ويؤكد الدكتور سيف رجب قزامل عميد كلية الشريعة والقانون بطنطا سابقا، أن التعايش السلمى مطلب مهم يدعو إليه الشرع، إذ الإسلام تحيته (السلام عليكم)، وإن شاء المسلم زاد عليه (ورحمة الله)، وإن شاء زاد أيضا (وبركاته)، كما توسع الإسلام فى مفهوم شعب الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان “، فالإسلام يدعو إلى التحلى بمكارم الأخلاق التى جاءت بها الشرائع السماوية السابقة، من الإيمان بالله، ورعاية اليتامي، والأرامل والرحمة بالآخرين، وتوقير الكبير وإكرام الضيف والعدل بين الناس، وعدم الغش، وعدم التعامل بالربا، وعدم ارتكاب الفواحش،...إلخ..وصدق الله إذ يقول “إن هذا لفى الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسي”.
ويؤكد هذا أن الدعوة إلى العمل على الأمور المشتركة التى تجمع ولا تفرق، والتى لا غنى عنها لقيام الدولة مطلب مهم للعيش المشترك، وهذا ما نفهمه فى قوله تعالى “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون”، وقوله أيضا « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ موسى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
وأضاف قزامل أن العهد النبوى شهد ترجمة عملية للتعايش السلمى بأسمى معانيه، حيث لا يوجد تعارض بين تعدد الطوائف الدينية فى المجتمع والخضوع لنظام سياسى واحد، مما يمكن التعبير عنه بالوحدة الوطنية أو التعايش السلمي. وأكد ذلك دستور المدينة حتى يستظل الجميع بحمايته ويخضع لأحكامه، حيث حوى كيف يكون التعايش بين أفراد المجتمع الواحد بالرغم من تعدد دياناتهم وتوجهاتهم.
رابط دائم: