رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ماهو الإنسان؟

إنه أحد أصعب الأسئلة وأيسرها فى آن، أعقدها وأوضحها فى الوقت نفسه. إنه ميسور واضح لو عرَّفنا الإنسان بيولوجيا وفسيولوجيا. ولكنه صعب غامض لو عرفناه روحيا وأخلاقيا, ذلك أن الإنسان ليس مجرد ظاهرة طبيعية بسيطة، فلا هو مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات كما يزعم الماديون، ولا سلوكه مجرد ردود أفعال مشروطة كما يدعى السلوكيون، وعقله ليس مجرد مخ مادي، صفحة بيضاء تعكس الواقع بحذافيره كآلة فوتوغرافية كما يرى التجريبيون، بل هو وعى خلاق ذو قدرة توليدية وخيال انتقائي، يُبقى ويستبعد، يهمِّش ويرِّكز، يستجيب لواقع تاريخى مركب حافل بالأشواق والمعانى والذكريات، ويصوغ مدركاته فى سياق المنظومات الأخلاقية والرمزية التى تحيط به وتحدد له مجال الرؤية ونطاق الحركة كما يعتقد النقديون، وأنا من بينهم.

يجرى التحول فى الظواهر الطبيعية بطيئا، وفق نظام صارم ودورات تاريخية طويلة، فيما يبدو سريعا للظواهر الإنسانية، فالإنسان كائن ثرى ومتنوع لا يقبل القسر فى قوالب مغلقة ولا الخضوع لتصورات حتمية. وفى مقابل الطبيعة التى لا تملك فكراً أو قصدا، ولا تعرف الخير أو الشر، يعرف الإنسان ويفكر، ويقصد بفكره إلى تحقيق أهدافه وبلوغ غايات سواء كانت خيرة أو شريرة. وعلى هذا فليس من حق الطبيعة أن تدعى قدرتها على إبداع الإنسان، لأن ظهوره ليس مجرد حدث تلقائى أو عرضى فى مسيرتها، بل هو الحدث الأكثر استثنائية فى تاريخها، حيث بات متاحا لها الوصول إلى مرحلة الشعور بالذات من خلاله هو، وصار ممكنا للمرة الأولى فى التاريخ بروز الثنائية الوجودية التى عبر عنها ديكارت بالفكر والامتداد، والتى وضعتها الفلسفات الحديثة فى قالب الذات والموضوع، الإنسان هو الفكر الذى يُمارس من خلال ذات تدرك الامتداد الطبيعى وتجعل منه موضوعا لتأملها، تفحصه وتنقده، أى تعرفه.

ورغم أن الفارق بين الإنسان وسائر الكائنات الحية يظل أضيق منه فى حالة الطبيعة، فإنه يظل فارقا وجوديا رغم أى تشابه فسيولوجي, فحتى الحيوان الأكثر رقيا يفتقد كثيرا من الأبعاد العميقة للوجود الإنساني، إذ لا يستطيع التمييز بين الظلم والعدل، الجميل والقبيح كالإنسان الذى يدرك ويميز ويفهم تلك المعانى والقيم. وفيما تعيش أرقى الحيوانات فى الحاضر وحده، يعيش هو فى الحاضر والماضى والمستقبل، إذ تراه يستعد لمستقبله من الآن، على هدى خبراته الماضية، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو ينفذ خططاً مدروسة، استعدادا لأزمنة قد لا يعيش حتى يراها وإنما يدركها ببصيرته. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أنه ذلك الخوف الغريزى فقط على الطعام خشية الجوع أو على الجسد خشية الافتراس، ولكن الإنسان يضيف إلى هذا الخوف البدائى أنواعا أرقي: الخوف من الله عندما يرتكب إثما دينيا. الخوف الميتافيزيقى من الفناء الذى يصيب جيرانه وأقرباءه وأصدقاءه. الخوف النبيل على مصير من يواجهون الأخطار والكوارث والمظالم. ورغم أن الحيوانات الأكثر تطورا من الناحية السيكولوجية، قد تعانى القلق ولكن قلقها ليس إلا شعورا مصاحبا للخوف على (الراهن)، وليس ذلك القلق الوجودى الناجم عن خوف الإنسان من المستقبل وهواجسه إزاء (المصير). وقد يميل ذكر الحيوان إلى أنثاه، غير أنه لا يستطيع أن يحب، لأن ميله انعكاس مباشر لغريزة تلقائية وسلوك جنسى بدائي، فيما الحب الإنسانى ذو بعد داخلى عميق وشفاف يكاد يشبه تجربة صوفية باطنية، تتجه نحو آخر بعينه، مفرد ومتميز ومُلهم، وليس أى آخر يجسد النوع فقط.

ورغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات لقانون العدم، فميزته الكبرى أنه وحده الأكثر وعيا بذلك القانون، وإدراكا لوجود معنى يكمن وراءه، فالإنسان وحده هو من يعرف الموت بل ويستعد، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف، إلى لحظة موته، أما الحيوان فيلاقى الموت مرة واحدة فقط، عندما يصادفه دون انتظار، ودون أن يدرك مغزاه. وربما كان ثمة فارق بين موت يأتينا فى الشيخوخة، نجلس لننتظره، حتى إن البعض يبنون له القبور ويجهزون الأكفان، يراه البعض مجرد تطبيق لسنة كونية معتادة، أن يموت القديم والهرم تاركا المجال لما هو جديد وواعد، ولذا ينسبه هؤلاء إلى أفكار تطورية عن الخلق تُعوِّل على النشوء والارتقاء، وتتحدث عن نظام منطقي، صارم ومنظم، للفناء والعدم. وبين موت يداهمنا فى ريعان الشباب، لمرض قاهر، أو حادث عارض، محض تجسيد لحكمة إلهية ترى ما لا نراه، تشى لنا من دون أن تصرح بالسر الكبير الخالد: ليس فوق قدر الله قوة، ولا يوازى حكمته عقل، فالأمر له وإليه.

غير أن موت الإنسان فى الحالين يكشف لنا عن حقيقة كبرى ذات وجهين: أولهما يتعلق بمحدودية الإنسان، الذى يظل جنينا فطفلا لفترة طويلة جدا، وينطوى على جسد هش قياسا إلى جيل الحيوانات ناهيك عن الجمادات. وثانيهما يتعلق بقدرته الفذة على التسامي، والتى تنبع من تلك المحدودية نفسها، فعظمة الإنسان تكمن فى إدراكه تلك المحدودية، وفى تصالحه معها، وفى اعتقاده بأن العمر القصير أو الموت المفاجئ لا يعنيان أن مشروع حياته قد باء بالفشل حتما، بل ربما كان ناجحا إلى الحد الذى أتى ثماره سريعا، فلم يعد لاستمرار معاناته سبب جوهري. يرتبط الفشل بالجسد الذى هزمه العدم، أما النجاح فيرتبط بالمعانى الكبرى للوجود، وهل استطاع الإنسان أن يضيف إليها؟، وهى قدرة لا تتوقف على العمر، فكم من أناس عاشوا طويلا وكأنهم أموات، لا يدركون معنى الحياة، ولا مغزاها.

ولا يعنى عجز البعض عن السمو إلى مرتبة الإنسانية غياب القدرة على التسامي، كما لا يعنى نجاح البعض فى بلوغها، إنها قدرة مطلقة حاضرة دوما، مضمونة لجميع الناس، فالقدرة على التسامى ملكة متاحة، استعداد مبدئي، للسمو لدى النوع الإنساني، يتطلب امتلاكها جهادا روحيا مستمرا لا يستطيعه الجميع، فالإنسان ليس كينونة مغلقة، تنطق بالخير كله، أو بالشر جله بل صيرورة ارتقاء عبر صراع، ينجح فيه البعض ويفشل فيه البعض، بل ينجح الشخص نفسه فى حين، ويفشل فى آخر، والمهم ألا تتوقف محاولاته، حتى لا تنعدم إرادته الأخلاقية ويزوى جوهره الإنسانى.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: