سحابات كثيرة ما بين اليأس والغموض بدأت تظهر فى الأفق وتختفى معها أحلام الشعوب فى قيمة عظمى تسمى الديمقراطية.. هذا الحلم الذى ضحت فى سبيله الشعوب بالدماء والأرواح وقدمت له كل ما تستطيع فى مسيرة الحياة والزمن.. هذا الحلم الذى ظل يراود الإنسان فى كل بقاع الكون حين كان محتلا وتائها فى أحراش الغابات وأعماق المستنقعات وفى سراديب القهر والاستبداد والعبودية..
> منذ سنوات ليست بعيدة كانت هناك شعوب تحارب الاستعمار من أجل هذا الحلم أن تحصل على استقلالها وحريتها وأن تنضم لمواكب الشعوب المتقدمة التى استطاعت أن تحقق أهدافها فى الحرية والرخاء والكرامة.. رغم سطوة الاستعمار وما خلفه للشعوب الفقيرة من مظاهر التخلف والجهل والمرض إلا أن المستعمر فى نظر هذه الشعوب بقى الحلم والهدف فى العلم والتقدم والحضارة وفى مقدمة هذه المظاهر قضايا الحريات.. أى الديمقراطية.. كانت عصور الاستعباد وتجارة العبيد والسطو على خيرات الشعوب الفقيرة تفرض وصايتها على شعوب كثيرة استطاعت أن تقاوم المستعمر بالدم ولكنها لم تستطع بعد أن حصلت على حرياتها أن تكون جزءا من منظومة كونية تضع الإنسان فى مكانه ومكانته رخاء وتقدماً وإبداعاً وحرية..
> رغم حصول دول كثيرة على استقلالها وحريتها من يد المستعمر الغاصب ورغم أنها رفعت أعلامها وأقامت جيوشها وانضمت إلى المنظمات الدولية وأخذت مقاعدها بجوار العالم المتقدم رأيا وحواراً وأصواتا إلا أنها فشلت فى أن تفتح أبواب النوافذ لشعوبها وكأن الاستبداد الذى خلفته أزمنة الاستعمار لم يكن مجرد عدو مستغل ومستبد وظالم ولكنه أصاب الشعوب بما يشبه نقص المناعة فلم يكن الجسد قادراً على أن يتحمل صرخات الحرية وأحلام الرخاء، ولهذا تعثرت كل محاولات المقاومة التى يمكن أن تنقذ هذه الشعوب من حشود الاستبداد والعبودية..
> كان النموذج الإفريقى أوضح النماذج التى سقطت فى سلسلة من التغيرات الحادة والسريعة والمتلاحقة فى مزيد من الاستبداد وبعد أن كان المستعمر هو الشبح الذى سيطر على موارد وثروات هذه الشعوب وجدنا من هم أشد بطشا واستغلالا من أبناء هذه الشعوب.. أمام هذا كله تأخر حلم الديمقراطية كثيراً حين ظهرت طبقات اجتماعية أكثر استغلالا لشعوبها من الاستعمار نفسه بل إن مسلسل نهب ثروات الشعوب بعد خروج الاستعمار كان أكثر فداحة من سنوات الاستعمار بكل ما كان فيها من مظاهر الاستغلال والعبودية..
> كان السؤال دائما لماذا لم تنجح تجارب الديمقراطية فى الدول الفقيرة من بقايا ما خلفه الاستعمار.. هل كانت هذه الشعوب لا تصلح أمام أمراض الجهل وغياب الوعى ونقص المناعة فى الفكر والإبداع والأحلام..
> إن معظم التجارب الديمقراطية فى الدول التى طردت الاستعمار لم تنجح فهل هى الأمراض التى تركها الاستعمار أم أن الشعوب نفسها لم تكن قد تهيأت لكى تقبل هذا النموذج الغريب عليها.. إن الأزمة الحقيقية أن هناك طوائف وقوى اجتماعية قد ورثت الاستعمار وحين خرج من البلاد سلم مفاتيح الخزانة والسلطة والقرار وحرص على أن يترك للشعوب كل ما لديه من الأمراض وكان فى مقدمتها طوائف تعمل لحسابه ولديها سلطة القرار وطوائف ورثت سلطة المال وهناك من شجع الانقسامات بين أبناء الشعب الواحد وكان ذلك تمهيداً للحروب الأهلية التى اشتعلت بعد ذلك..
> إن النماذج كثيرة فى عدد كبير من دول العالم التى لم تنج من مخلفات كثيرة تركها الاستعمار، وعلى سبيل المثال كان تقسيم العالم العربى بعد نهاية الدولة العثمانية، ففى لبنان الوطن الجميل الصغير كانت مأساة الطوائف والتى يدفع اللبنانيون ثمنها حتى الآن ما بين السنة والشيعة والدروز والمسيحيين وجنسيات أخري، رغم أن لبنان كان الأرض العربية المهيأة لتقديم تجربة ديمقراطية حقيقية وما حدث من انقسامات فى لبنان حدث فى العراق ثم سوريا واليمن وقد شهدت دول كثيرة حروباً أهلية بسبب ما ترك لها الاستعمار من الانقسامات الدينية والعرقية كما حدث فى السودان ونيجيريا وبعض الدول الأفريقية الأخري..
> لقد ترك الاستعمار لنفسه أذنابا وحواريين وأصحاب مصالح وقبل هذا انقسامات فى الدين والألوان والعقائد وكان من الصعب فى ظل هذا كله أن تعيش هذه الشعوب تجارب حقيقية مع الديمقراطية.. إن هذا كان يعنى بعد سنوات طوال من الاستقلال أن الاستعمار خرج ولم يخرج وأن هذه الشعوب تحررت ولم تتحرر ولهذا كان من السهل أن تعود حشود الاستعمار مرة أخرى بعد فترة من الزمن فى صورة جديدة أخذت عدة أشكال:
> عاد الاستعمار متخفيا خلف حشود من المؤيدين والرافضين لتدخل هذه الشعوب فى حروب أهلية لم يكن فيها منتصر ولا مهزوم وفى الوقت الذى كان يطلق دعوات للديمقراطية كان يساند أنظمة قمعية مستبدة ومن خلال تغيرات حادة فى نظم الحكم لم تستقر الشعوب على صيغة تمنحها قدراً من الاستقرار والأمن يمهد لظهور تجارب ديمقراطية حقيقية..
> كان الاستعمار يحتل هذه الشعوب بالسلاح والوجود العسكرى ولكن أمام الظروف الاقتصادية والفقر والديون فشلت مشروعات التنمية وجعلت هذه الدول تستجدى المستعمر أن يعود مرة أخرى حتى ولو كان ذلك على حساب حريتها واستقلالها وسلطة القرار فيها.. إن الغريب فى معظم الدول التى تحررت من الاستعمار وطالبت بالحرية وحلمت بالديمقراطية عادت تلقى نفسها مرة أخرى فى أحضان المستعمر طالبة الدعم والعون والمساندة بل أن الكثير من القضايا والصراعات والخلافات بين أبناء الشعب الواحد تطلبت تدخلا من جهات أخرى لحسم النزاعات وحل الأزمات فى ظل غياب كامل لارادة الشعوب التى تحررت ولم تستطع أن تصل إلى صيغة لإدارة شئون بلادها بالعدل والحرية واحترام حقوق الإنسان..
> لم يلجأ الاستعمار الى أساليبه القديمة ولكنه فى ظل مظاهر التقدم الرهيب استطاع أن يستبدل وسائله فى صور جديدة فأصبح الموبايل بديلا للسلاح وأصبح شحن المواطنين بديلا لحشود الاستبداد واستطاع من خلال منظومة التكنولوجيا أن يغير الكثير من المفاهيم وان يشوه وعى الشعوب وثوابتها بل انه نجح فى تحريك حشود من البشر بطريقة آلية غير مسبوقة فى تاريخ الاستعمار القديم..
> فى ظل منظومة جديدة تقوم على العولمة استطاعت قوى العالم المتقدم أن تغير الكثير من ثوابت المجتمعات مما جعل البعض منها يرتد إلى واقعه القديم أو يتمرد عليه، وهنا وجدنا انقسامات فكرية حادة بين أبناء الشعب الواحد تحركها أدوات خارجية قلبت كل موازين الأمن والاستقرار فى هذه الشعوب.. كانت العولمة التى اجتاحت العالم منذ سنوات تحت شعارات ثقافية وفكرية وإنسانية هى البداية التى أجهضت ثوابت مجتمعات كثيرة ورغم أنها كانت فى الظاهر دعوة للحرية والديمقراطية إلا أنها سرعان ما كشفت وجهها الحقيقى إنها ضد كل هذه المفاهيم حين طالبت بأن تحكم الجنس البشرى منظومة واحدة تذوب فيها كل القيم والثقافات والأفكار وكان هذا أول إهدار لقيمة الديمقراطية..
> إذا كانت دعوات قوى الاستعمار والعالم المتقدم قد أبهرت شعوب العالم بحلم الديمقراطية وحقوق الإنسان فهى نفسها التى أجهضت هذا الحلم بين شعوبها حين عادت إليها بواقع أكثر استبدادا ووحشية وفى الحروب الأهلية والانقسامات وتجارب السلاح وصفقاته ما يؤكد ذلك.. إن أسواق السلاح تعمل لحساب دول فقيرة يقتل الناس فيها بعضهم والصراع الذى شهده العالم فى السنوات الماضية كان من أجل البترول، والدليل أن ما يجرى الآن من صراعات بين القوى الكبرى فى العالم العربى ليس بحثاً عن الديمقراطية أو دعوة لحقوق الإنسان إنها الثروات التى لم تكتشف بعد أو صفقات السلاح التى تنتظرها الشركات المنتجة ما بين الحكومات والسماسرة وجماعات المصالح والمستفيدين..
> إن أسطورة الديمقراطية كانت صناعة من أجل المصالح وحين سقط هذا الشعار ظهرت الوجوه القبيحة كلها قتلا وحروبا ودمارا ومنذ اشتعلت الحرب العالمية الثانية أستوعب العالم المتقدم الدرس وبدأ يجرب أسلحته فى شعوب الدرجة الثالثة كما يطلقون عليها وهنا كان من الضرورى أن تظهر حشود المصالح لكى تنطلق مرة أخرى فى تلك الدول التى كانت تسمى المستعمرات ولكن بأساليب جديدة وخطط جهنمية ومؤامرات وطوابير خامسة وعملاء فى ثياب الوطنية وكانت النتيجة أن شعوب الدرجة الثالثة نسوا هذا الحلم الجميل فى الديمقراطية وتحولوا إلى مستعمرات يأكلون بعضهم أو يأكل فيهم القوى ويستبيح كل حقوق الضعفاء.. إن النتيجة أن العالم المتقدم هو الذى غرس أشجار الحرية فى شعوب الدرجة الثالثة ولكن للأسف الشديد اتضح أنها أشجار عاجزة بلا ثمار وهذا يعنى أن الاستعمار خدعنا بحلم زائف يسمى الديمقراطية وضللنا بواقع كاذب يسمى الاستقلال.. والدليل أن شعوب الدرجة الثالثة ازدادت تخلفا وقمعا واستبدادا وهى تبحث عن وهم يسمى الديمقراطية ثم عادت مرة أخرى إلى أحضان جلاديها المستعمرين لأنها عجزت أن تصنع التقدم وأن تنصف شعوبها من خلال رخاء حقيقى وديمقراطية توفر للإنسان الحرية والكرامة..
ويبقى الشعر
لا تـَذكـُرى الأمْسَ إنـّى عِشْتُ أخفِيه
إنْ يَغفِر القـَلـْبُ.. جُرحِى مَنْ يُدَاويـــــهِ
قـَلـْبـِى وعينـَاكِ والأيَّامُ بَينـَهُمــــــــــَا
دَربٌ طويلٌ تعبْنـَا مِـــــــنَ مَآسِيــــــــهِ
إنْ يَخفِق القـَلبُ كـَيْفَ العُمْرُ نـُرجعُـهُ
كـُلُّ الـَّذى مَاتَ فينـَا .. كـَيْفَ نـُحْييــــــهِ
الشَّوقُ دَرْبٌ طويلٌ عشْتُ أسْـلـُكــُهُ
ثـُمَّ انـْتـَهَى الدَّربُ وارْتـَاحَتْ أغـَانِيـــــه
جئـْنـَا إلَى الدَّرْبِ والأفـْرَاحُ تـَحْمِلـُنـَا
واليَوْمَ عُدْنـَا بنـَهر الدَّمْـــــــع ِ نـَرْثـِيـــــه
مَازلتُ أعْرفُ أنَّ الشَّوْقَ مَعْصِيـتـي
وَالعشْقُ واللــّــه ذنــْبٌ لـَـسـْتُ أخـْفـــِيـــه
قـَلـْبـِى الـَّذِى لـَمْ يَزَلْ طِفـْلا ً يُعَاتبُـنـي
كـَيْفَ انـْقـَضَى الـعِيدُ .. وانـْفـَضَّتْ لـَيَالِيهِ
يَا فـَرْحة ً لـَمْ تـَزَلْ كالطـَّيفِ تـُسْكرنِي
كـَيـْفَ انـْتـَهَى الحُلمُ بالأحْزَان ِ والتـِّيـــــهِ
حَتـَّى إذا ما انـْقـَضَى كالعِيدِ سَامرُنـَا
عُدْنـَا إلـَى الحُزْن ِ يُدْمينـَا .. ونـُدْمِيهِ
مَا زَالَ ثـَوْبُ المُنـَى بـِالضَّوْءِ يَخْدَعُنِـي
قـَدْ يُصْبحُ الكـَهْـلُ طِفـْلا ً فِى أمَانِيــــــهِ
أشـْتـَاقُ فِى اللـَّيل ِ عطـْرًا مِنـْـكِ يَبْعَثـُنِى
ولـْتـَسْألِى العِـطـْرَ كـَيْفَ البُعْد يُشـْقِيــــهِ
ولتسْألِى اللـَّيْـلَ هَلْ نـَامَتْ جَوانِحُـــــــهُ
مَا عَادَ يَغـْفـُو وَدَمْعِــــــى فِى مآقِيــــــــهِ
يَا فـَارسَ العِشْق ِ هَلْ فِى الحُبِّ مَغـْفـِرَة ٌ
حَطـَّمتَ صَرْحَ الهَوَى والآنَ تـَبْكِيـــــــهِ
الحُبُّ كالعُمْر يَسْرى فِى جَوانِحِنـــــــــَا
حَتـَّى إذَا مَا مَضَى .. لا شَـيْءَ يُبْقِــيــــهِ
عاتـَبْتُ قـَلـْبـِى كـَثيرًا كـَيْفَ تـَذكـُرهَـــا
وعُمْرُكَ الغَضُّ بيْنَ اليَأس ِ تـُلـْقـــــِيـــــهِ
فِى كـُلِّ يَوْم ٍ تـُعيدُ الأمْسَ فى مـــــــلـَل ِ
قـَدْ يَبْرأ الجُرْحُ .. والتذكــارُ يـُحْييـــــــهِ
إنْ تـُرجعِى العُمْرَ هَذا القـَلـْبُ أعْرفـــُهُ
مَازلتِ والله نبْضـًا حائـِرًا فيـــــــــــــهِ ..
أشْتاقُ ذنـْبى ففِى عَيْنيكِ مَغـْفِرتِـــــــــى
يَا ذنـْبَ عُمْرى .. ويَا أنـْقـَى ليَــــاليـــــهِ
مَاذا يُفيدُ الأسَى أدْمَنـْتُ مَعْصِيَتِــــــــي
لا الصَّفـْحُ يُجْدِى .. وَلا الغـُفـْرَانُ أبْغِيهِ
إنـِّى أرَى العُمْرَ فى عَيْنـَيـكِ مَغـْفـــــِرَة ً
قـَدْ ضَلَّ قلـْبـِى فـَقـُولِى .. كـَيْفَ أهْدِيهِ ؟!
[email protected]
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها فاروق جويدة رابط دائم: