حقوق الإنسان.. سلع وخدمات

ليست هناك كلمة مظلومة فى قواميس اللغات المختلفة مثل كلمة حقوق الإنسان, لأن الموضوع مطاط وحمّال أوجه وجرى استغلاله استغلالًا واضحًا فى العقود الأخيرة بعدما زحفت الاعتبارات السياسية على المفهوم القانونى لحقوق الإنسان، وأصبحنا أمام تطبيقات مزدوجة المعايير تكيل بمكيالين وربما أكثر، بينما الحقيقة تقول إن لحقوق الإنسان تعريفات محددة قد تتسع وقد تضيق ولكنها تمثل قاسمًا مشتركًا بين كل من يؤمنون بها ويدافعون عنها، وأنا أريد أن أقول هنا إن حقوق الإنسان ليست مجرد شعار نظرى أخلاقي، ولكنها تتمثل فى تلبية احتياجات البشر فى مجتمع معين، وإذا كنا لا نختلف كثيرًا حول مفهوم نسبية حقوق الإنسان وفقًا للأوضاع الاقتصادية والبيئة الثقافية والظروف السياسية إلا أن هناك حدًا أدنى منها لا يمكن تجاهله أو إغفاله، ونطرح هنا بعض العوامل المؤثرة فى قضايا حقوق الإنسان:

أولًا: إن حقوق الإنسان كما أسلفنا هى تعبير مطاط قد يستخدم وكأنه الحق الذى يراد به باطل، فما أكثر التدخلات الدولية فى الشئون الداخلية للدول الصغيرة والتى تمت تحت مظلة الحفاظ على حقوق الإنسان، بينما ما تقوم به تلك القوى الدخيلة هو انتهاك صريح لتلك الحقوق، وعدوان مباشر على الآخرين، واستخدام للقوة بديلًا للحق والعدل، ولقد درج الغرب على ترديد عبارات بعينها تختفى وراءها الأطماع وتستتر خلفها المخططات الخبيثة مثلما كانت الظاهرة الاستعمارية ترفع شعارات تحضير الشعوب والارتقاء بالأمم، بينما هى استغلال مباشر لثروات الآخرين وامتصاص لدماء مجتمعات غير مهيأة للدفاع عن النفس وحماية الاستقلال, وبذلك فإن الخطر الأول الذى يلحق بمفهوم حقوق الإنسان هو ذلك القادم من التلاعب بالمفهوم السياسى لتلك القضية الأممية الخطيرة. ثانيًا: لقد أثبتت الأحداث أن الخلفية الثقافية تتحكم بشكل كبير فى نوعية حقوق الإنسان لدى الدول المختلفة، فهناك دول تقبل بالمثلية حتى وصلت إلى حد الزواج الرسمى وهو أمر صادم للغاية فى مجتمعات أخري، ولكن المعيار الثقافى يتحكم بضراوة فى هذه المسألة، فأميرة القلوب (ديانا) - التى كادت تهز العرش البريطانى - عندما رحلت عن عالمنا فى حادث مأساوى بكاها الناس فى كل مكان واعتبروها قديسة حتى إن أجراس الكنائس التى دقت حزنًا عليها غطت على خبر آخر وهو رحيل (الأم تريزا) راعية المحتاجين وصاحبة التاريخ الحافل فى رعاية الأسر الفقيرة والمناطق المحرومة فى الهند وغيرها؛ وذلك رغم أن ديانا قد اعترفت علنًا وعلى شاشات التلفزة قبل رحيلها بأعوام قليلة بالخيانة الزوجية أصرت على تأكيد ذلك أمام المذيع الذى كان يسألها فى تردد عن قصة حبها بعد انفصالها عن ولى العهد البريطاني، وهذا المثال تأكيد على تأثير اختلاف الثقافة من مجتمع إلى آخر، فالخيانة الزوجية فى المجتمعات المحافظة والشعوب المتدينة قد تؤدى إلى القتل قصاصًا ورجمًا، بينما هى حدث عادى فى مجتمعات أخري، ولذلك فإن التفاوت فى المعيار الثقافى هو تفاوت حاكم فى هذا السياق. ثالثًا: لقد استخدمت جمعيات أهلية منتشرة فى أنحاء العالم مظلة حقوق الإنسان ساترًا لأغراض أخرى قد لا تكون بالضرورة متسقة مع المبادئ المثالية الأصلية فى هذه القضية؛ وذلك يعنى أن سوء استخدام مفهوم حقوق الإنسان قد أدى إلى اختلاط الحابل بالنابل وذوبان المفهوم الأخلاقى لحقوق الإنسان فى مستنقعات المصالح والأهواء والنوايا الخبيثة. رابعًا: إن المعيار الاقتصادي, فى ظني, هو أخطر المعايير لأنه يعنى ضرورة كفالة حد أدنى من الدخل السنوى للأسر الفقيرة، وهو أمر لا تنهض بتحقيقه نسبة غالبة من دول العالم، فالفقر ظاهرة عالمية واسعة الانتشار ومكافحة الفقر تحتاج إلى توجهات علمية وسياسات رشيدة للخروج بالمجتمعات المحتاجة إلى دائرة الضوء وبلوغ الحد الأدنى من مستوى المعيشة المقبول، وهذا أمر يندرج بالضرورة ضمن قائمة حقوق الإنسان وهو ما تتجاهله كثير من الحكومات ومعظم النظم القائمة فى عالمنا المعاصر حيث يدور التركيز حول الجوانب الأخلاقية لحقوق الإنسان دون غيرها مثل رعاية الحريات العامة وحماية الأقليات والدفاع عن الديمقراطية، وهذه كلها أهداف سامية وأغراض نبيلة، لكنها وحدها لا تكفل الطعام لكل فم والضمان لكل أسرة.

إن حقوق الإنسان ومواثيقها المختلفة قد جاءت نتيجة مسيرة طويلة من عمر البشرية ومعاناة طويلة فى الحرب والسلم، ولكنها لا تزال قاصرة عن تلبية احتياجات الفقراء وإرضاء المحتاجين، فالرفاهية مطلب إنساني، ولكنها لا تندرج تحت البنود الرئيسية لقضايا حقوق الإنسان فى عصرنا ولا نطالب بها فى زماننا، فالطريق طويل والغايات صعبة ولكن الشعارات عالية والعبارات رنانة والشعوب تدفع فى النهاية الثمن وحدها، وخلاصة ما أريد أن أذهب إليه من السطور السابقة هو أن أذكر الجميع بفقه الأولويات وأهمية تلبية احتياجات البشر، ولقد ورد فى الأثر عن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز: (أن الأكباد الجائعة أولى بالصدقة من البيت الحرام)، وذلك يعنى بوضوح أن حقوق الإنسان فى كل الشرائع والديانات هى طرح إنسان عالمى لا تقف عند حدود معينة وفى ظل نداءات مكررة، ولكنها تتجاوز ذلك لأن تصبح دعوة عالمية ذات طبيعة أممية تملك حدًا أدنى يشترك فيه الجميع مهما تحتلف الثقافات وتتعدد الديانات وتتنوع الأيديولوجيات .. إن حقوق الإنسان كانت ولا تزال وسوف تظل وخزًا فى ضمير البشرية؛ وهاجسًا فى عقول قادة الرأى وهدفًا للإنسان فى كل زمان ومكان.