ربما يكون العالم مع مطلع العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين أفضل حالا مما هو شائع عن الانقسامات العالمية، والحروب الأهلية، والانفجارات الشعبية، وسياسات الهوية الشعبوية التى تنمى الكراهية والعنف بين سكان الأرض. فالعقد الذى يوشك على الذهاب شكل نقيضا لما كان سائدا قبله أن العولمة قد جعلت الدنيا كلها قرية صغيرة تتنقل فيها التجارة والتكنولوجيا والقيم بسهولة ويسر، وأكثر من ذلك أن سكان الكوكب من البشر باتوا أسعد حالا حينما تخرج من دائرة الفقر أكثر من مليار أغلبهم من الهند والصين والدول الآسيوية والأمريكية الجنوبية. خرجت أوروبا الشرقية من العنف الشيوعي، وحتى إفريقيا التى عرفت حروبا أهلية ومذابح أخذت تدريجيا تتعافي؛ ومنذ انتهاء الحرب الباردة تراجع العنف والحروب الدولية، وتراجعت المجاعات والأوبئة، وإذا ما حدثت فإن الأدوات الدولية المتعددة كانت تتحرك فورا للتعامل مع الفاجعة. كانت موجة بداية الألفية الثالثة فى عمومها متفائلة، وبدا التعايش السلمى بين البشر على مرمى حجر، صحيح أن العديد من المشكلات الدولية ظلت قائمة إلا أن الآليات العالمية المتنوعة الرسمية وغير الرسمية كانت تتعامل معها. العقد الثانى شكل خيبة أمل كبيرة، ولم يكن رحيما على وجه الخصوص بمنطقة الشرق الأوسط، فالعالم عاد إلى أنواع جديدة من الحروب الباردة، وسادت فيه نزعات يمينية تقترب كثيرا من الفاشية، وفى كل الأحوال قامت على نزعات قومية تتسامى على ما عداها، وتترفع على من اختلف معها، ودخل الدين والطائفة إلى قلب المعارك الفكرية والعملية التى تركت وراءها خسائر بشرية مخيفة، وركام مدن وبقايا أثر فى مناطق ظلت دوما جزءا أصيلا من تاريخ البشرية.
الشاهد الآن أن هناك محاولات عدة لعبور المسافات التى اتسعت بين الملل والنحل والطوائف والجماعات الدينية والمذاهب المتنافسة، بمحاولات متعددة لحل الصراعات دبلوماسيا وسياسيا، والبحث فى نفس الوقت عما يجمع الإنسان ولا يفرقه. وفى مناطق شتى من العالم جرت الدعوة إلى تجديد الفكر الدينى، بل وتجديد الفكر السياسى كله لكى يكون داعيا إلى التآخى والمودة بين القبائل والشعوب الذين خلقهم الله لكى يتعارفوا ولا يتقاتلوا. وكانت واحدة من هذه المبادرات خلال هذا العام المبادرة التى أخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة عندما دعت الإمام أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر والبابا فرانسيس الزعيم الروحى للطائفة الكاثوليكية المسيحية للتوقيع على ما عرف بعد ذلك باسم وثيقة الإخوة الإنسانية التى خلقت أساسا فكريا ومعنويا للتراحم بين المسلمين والمسيحيين فى العالم. ومرة أخري، فإن دولة الإمارات دعت فى مدينة أبوظبى هذا الشهر قادة وزعماء ورجال دين من مختلف دول العالم إلى جمع تحت شعار: دور الأديان فى تعزيز التسامح: من الإمكان إلى الإلزام، أو ما عرف بعد ذلك باسم حلف الفضول الجديد، وهو نوع من الاستدعاء لسوابق التراث لكى تسهم فى التعامل مع إشكاليات كبرى لعالم اليوم. حلف الفضول ودون الدخول فى الكثير من التفاصيل شكل سابقة قبل نزول الرسالة الإسلامية، ولكنها أقرتها فيما بعد، عندما دخل مكة زائر مارس التجارة فما كان من أحد الأقوياء إلا أن منعه عن حقوقه، فما كان منه إلا أن اعتلى تلا وألقى شعرا شرح فيه ما وقع له من ظلم. ساعتها قام كرام مكة بالاجتماع والتوصل إلى وثيقة أنه لا يجوز ظلم على زائر للمدينة، وأنهم سوف يستردون ما له من حقوق، وكان ذلك هو ما حدث حيث حصل المظلوم على ما له. القصة هكذا تمثل تراثا جماعيا فى منطقتنا لرد المظالم إلى أهلها، وكان هناك مثله فى العالم الغربى وتردد فى أسطورة الملك آرثر صاحب كاميلوت الذى عقد مائدة مستديرة يكون فيها مكان لقائد لفرسان مهمتهم الدفاع عن المظلومين. وفى العصر الحديث، فإن إنشاء عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولي، والأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية قام على ذات الفكرة أن يكون هناك ما يجمع البشر فى الدفاع عن الأمن والسلم الدوليين من ناحية، ونصرة المظلومين من ناحية أخرى.
حلف الفضول الجديد إضافة معاصرة لهذا التراث القائم على أساس الفضيلة ومكارم الأخلاق والقيم النبيلة المشتركة بين بنى الإنسان، ومن غير اعتبار الفوارق والانتماءات القبلية والعرقية والدينية. ورغم أن هذا الحلف موجه أساسا لما يسميه أصحاب ديانات العائلة الإبراهيمية، أى اليهودية والمسيحية والإسلام, إلا أنه يؤكد التلاقى مع القيم المشتركة التى يحملها أصحاب الديانات الأخري، والملتزمون بالقيم الإنسانية المشتركة، والمحبون للسلام. الجديد فى الوثيقة الجديدة أنها لا تكتفى بتأكيد على المثاليات المعروفة للتراحم والتكاتف بين البشر ومقاومة المظالم المختلفة، إلا أنها فى نفس الوقت تؤكد من ناحية المواطنة الإيجابية التى تعزز من الدولة الوطنية من جانب؛ ومن ناحية المبادئ المقررة فى المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. أدوات الحلف لتحقيق أهدافه تقوم على العائلة وغرس القيم النبيلة القائمة على التسامح وقبول الآخر والمساواة، كما تركز على التعليم وربطه بالمنظومة الأخلاقية، ثم العمل الإنسانى المشترك لإغاثة الملهوف وإيواء اللاجئين وحماية الضعيف.
السؤال فى النهاية هو هل تفلح هذه المبادرات فى إصلاح الأحوال الإنسانية وما انكسر منها خلال العقد الماضي؟ والإجابة القصيرة هى نعم قاطعة, والأطول قليلا هى أن هناك معركة كونية كبرى بين أيديولوجيات سياسية يمينية داعية إلى العزلة، والافتراق بين الأفراد والجماعات البشرية المختلفة على أسس من الدين أو اللون أو الجنس، وبين من يحاولون إقامة مجتمع دولى قائم على الأخوة الإنسانية. الأوائل حققوا نجاحات كبيرة خلال العقد المنصرم استنادا إلى ما جرى فيه من قوافل اللاجئين ومن أعمال إرهابية أرقت الكثيرين فى دول العالم المختلفة, وأكثر من ذلك استثمار النتائج السلبية للعولمة التى هددت الطبقات الوسطى والعاملة فى الدول الغربية خاصة. الآخرون يحاولون من خلال نحلف الفضول» وما يشابهه مواجهة الدعوات العنصرية، القائمة على التعصب والكراهية. هذه المعركة سوف تستمر معنا خلال العقد المقبل.
لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد رابط دائم: