برز مصطلح الإسلام السياسى فى العقود الأخيرة ولم يكن له وجود مثلما نتحدث عنه الآن، كما أن التعبير لم يكن متداولًا على نطاق واسع، فالأفكار المرتبطة بالإسلام السياسى جاءت متفرقة ولم تأت متكاملة أو شاملة كما يتحدث عنها أنصارها الآن, فلقد كانت الدعوة مقصورة على الجوانب الروحية التى تدور حول الحاكمية فى الإسلام (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، وقد ظهرت ومضات مثلما جاء فى كتاب عبد الرحمن الكواكبى (أم القري) أو جمال عبد الناصر فى (فلسفة الثورة) عندما تحدث عن الدائرة الإسلامية واعتبر موسم الحج مؤتمرًا إسلاميًا سياسيًا سنويًا، ورغم ذلك كله لم تكن كلمة الإسلام السياسى قد اكتسبت مدلولها الحالى وإن كنت شخصيًا أرى أن التوقيت الأدق لميلاد هذا التعبير هو عام 1928، عندما أسس الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين والتى كانت جماعة دعوية منبثقة عن طريقة دينية هى (الحصافية)، ولم يكن يتصور الذين تحدثوا عنها وقتها أنها سوف تكتسب ذلك الزخم الذى تحقق لها عبر عقود قليلة، وقد انتشرت الحركة فى ريف مصر ومدنها كانتشار النار فى الهشيم وعبرت الحدود إلى الدول العربية والإسلامية، بل تجاوزت ذلك إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وقد تلقفتها الجماهير المتعطشة لإيجاد بديل جديد للخلافة الإسلامية بحماس شديد بعد سقوط الدولة العثمانية وانتهاء الخلافة على يد أتاتورك وأعوانه، إذ بدأ المسلمون يبحثون عن البديل ولعل ذلك يفسر لماذا قامت حركة حسن البنا بعد ما لايزيد على أربع سنوات من سقوط الخلافة لكى يملأ ذلك الفراغ الذى تسبب فيه ذلك الحدث التاريخى الجلل، ولذلك فنحن نظن أن جماعة الإخوان المسلمين هى الأم الكبرى لكل الحركات الإسلامية التى خرجت جميعًا- معتدلين ومتطرفين - من عباءتها إذ استثمر الآباء الكبار للجماعة تدين الشعب المصرى أولًا وحفاوته الشديدة بكل ما يتصل بالإسلام الحنيف لكى ينتقلوا بالجماعة من إطارها الدعوى إلى إطارها السياسى مع تطلعات لدى أقطاب الجماعة إلى لعب دور فى الحياة السياسية المصرية، ولعل المواجهة الشهيرة بين زعيم الوفد النحاس باشا ومرشد الإخوان حسن البنا عندما أراد الأخير أن يدخل انتخابات مجلس النواب فى أربعينيات القرن الماضى فنهره النحاس باشا وذكره بأن الجماعة دعوية وليست سياسية، ولكن لا يوجد ما يضمن ذلك أبدًا فقد انطلق قادة الجماعة فى كل اتجاه وتشكل لديهم (الحرس الحديدي) وسلكوا طريق العنف ومارسوا الاغتيالات السياسية، وقد كانت النتيجة هى المواجهة الحادة مع عبد الناصر فى عامى 1954 و 1965، ولقد كان انتشار الحركة فى الخارج مدعاة للدهشة ولكن اعتمادها على بريق الدعوة الإسلامية وتوظيفها للجانب الدينى لخدمة أهدافها هو الذى سمح لنا بأن نتحدث كثيرًا عن الإسلام السياسى، الذى زرع المخاوف لدى غير المسلمين وأزكى مشاعر الخوف والقلق تجاه تلك الجماعة، وأصبح تعبير الإسلام السياسى فزاعة يستخدمها من يريد خصوصًا أن تنظيمات دموية متطرفة مثل القاعدة وداعش وغيرهما قد رفعت شعار الإسلام السياسى وادّعت أنها تعمل تحت مظلته، فكان أن تحول الأمر إلى مواجهة كونية ظهر على أثرها تعبير (الإسلاموفوبيا) أى مجموعة المخاوف المصطنعة التى تلتصق بالإسلام ظلمًا بسبب خروج طائفة من أتباعه هم خوارج العصر ليسيئوا إليه ويصلوا بنا إلى ما بلغناه الآن من تطاول على الإسلام وتشويه لصورته، وأنا شخصيًا مقتنع أن مفهوم الإسلام السياسى هو تجسيد لمؤامرة كبرى ضد الإسلام وحرب غير مقدسة على ذلك الدين واسع الانشار، وقد أصبح على المسلمين بل العرب برمتهم - فهم أبناء الثقافة الإسلامية - أن يحذروا تلك المخاطر التى تلوح فى الأفق ولهم أن يسلكوا بذلك طريقين هما: أولًا: تنقية الدعوة الإسلامية من الغبار الذى تراكم عليها عبر العصور لينال من نبعها الصافى وبريقها الأخاذ بالتركيز على رفض التطرف والأحاديث المصطنعة والروايات المشبوهة وإظهار الوجه السمح للإسلام دين التسامح واحترام الآخر وتوقير اختيارات الغير، إن ذلك الأمر سيحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل ولكن ليس لنا خيار غيره. ثانيا: تأكيد اهتمام الإسلام بالدين والدنيا معًا واحترامه للعقل حتى إنه جعل التفكير فريضة إسلامية كما لم يسمح لأتباعه بالمضى وراء الخرافات وإغفال العقل وإهمال التفكير الرشيد، وفى ظنى أن وصول مثل هذه الرسالة إلى غير المسلمين سوف يرفع عنا غطاءً مهينًا لا مبرر له. وتبقى بعد ذلك المهمة الأخطر وهى كبح جماح التنظيمات المتطرفة والجماعات الدموية التى روّعت الآمنين وجعلت غيرنا يستهين بنا ويتطاول على نبينا ويدعو إلى حفلات لحرق كتابنا المقدس القرآن الكريم!.. إنها صيحة فى وادى الصمت وفى أعماق الزمان السحيق الذى يريد للإسلام الذى بدأ غريبًا أن ينتهى غريبًا بينما هو فى رأى كل المحايدين - مسلمين وغير مسلمين - هو دين الموضوعية والعدالة والمساواة، وسوف تكون المواجهة مضنية ولكنها مسئوليتنا جميعًا إذا أردنا أن نعيش حياة العصر وأن نكون جزءًا لا يتجزأ من عالم اليوم، فنحن المتهمون بعد كل حادث إرهابي، والموقوفون فى المطارات، والمرفوضون فى الحصول على التأشيرات لأن جماعة منا خرجت علينا وأساءت إلينا فحق علينا أن ننفض الغبار وأن نصحح الصورة وأن نقدم الحقيقة لمن يريد أن يعرف حتى ولو كان فى قلبه مرض!
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى الفقى رابط دائم: