قليلون جدا هم الذين يعرفون الفرق بين الواحات البحرية التابعة إداريا لمحافظة الجيزة، وواحات الوادى الجديد الثلاث «الداخلة والخارجة والفرافرة» وسيوة «واحة» مطروح، فالغالبية وحتى اللحظة تعتقد أن كلها واحات ولا فرق..
يكفى أن تعرف أن ظهور الإنسان لأول مرة فى مصر، كان فى هذه الواحات الخمس بالصحراء الغربية تحديدا فى زمن العصر المطير الثانى بنحو 120 ألف سنة، وقد كانت نهايته منذ نحو عشرة آلاف سنة مضت حين بدأ عصر الجفاف والتصحر غرب مصر.
........................
منذ نشأتها لم تلق الصحراء الغربية وواحات مصر الخمس «البحرية، الفرافرة، الخارجة، الداخلة، سيوة» ماتستحقه من اهتمام سواء من الناحية البحثية والتاريخية أو السياسية والاقتصادية أو من جانبى الأرض والبشر المصريين العاديين، حتى حينما اتجهت الحكومة المصرية إلى واحاتها الجنوبية الثلاث وفكرت فى تنميتها لم تقم ولو بعمل دراسات لازمة وواجبة مكتفية بالتعامل الجغرافى، دون دراسة تاريخها الثقافى والذى لو تم لساعد ذلك كثيرا على تفادى الكثير من المشكلات التى واجهها جهاز تعمير الصحارى ودفعته للتراجع والانسحاب وفشل خطة التعمير بالوادى الجديد بعد عشر سنوات فقط من بدايتها «1962ــ1971» وقالوا عنها حلم عبدالناصر الذى لم يتحقق..
لذلك ظلت هذه الواحات الخمس بعيدة تماما عن أعين الجميع «باحثين وحكومة ومواطنين» والساعين الى الكشف عن التاريخ الثقافى لأول بقعة عاش فيها الإنسان المصرى منذ نحو 180 الف سنة، ليكتفى البعض برصد سطحى لقليل من عناصر الفلكلور الشعبى من باب ذر الرماد فى العيون.
وهنا لابد لنا أن نتوقف ولاننسى جهد الباحث العاشق للتراث والمأثورات الشعبية عبدالوهاب حنفى، الذى وعقب دراسات ميدانية اتخذت من سكان الصحراء «بدو وواحات» محورا لها، راح يعكف لمدة ما يناهز الأربعين عاما على العديد من المصادر البحثية ينقب عن بدايات ميلاد هذه الواحات الخمس و الفروق بينها التى تتناول التاريخ الاجتماعى والثقافى لكل واحة ليخرج لنا فى النهاية عام 2012 بكتاب رائع زاخر صادر عن سلسلة الثقافة الشعبية بالهيئة المصرية العامة للكتاب يكشف لنا عن المزيد من النتائج المبهرة والمذهلة بالتفاصيل تحمل عنوان «الواحات الداخلة دراسة فى التاريخ الثقافى والمأثورات الشعبية».
أرض القمح وطريق إفريقيا
وإذا كانت الصحراء الشرقية التى تعد بوابة مصر لعبور الغزوات التاريخية، التى اتخذت من سيناء مسرحا لمواقف الكر والفر فى الحروب، نالت كل الحظوظ وقناطير مقنطرة من اهتمامات الباحثين والدارسين للارض والبشر، باستثناء الباحث عبدالوهاب حنفى مؤلف هذا الكتاب، فإن الكثيرين ظلوا على تجاهلهم أهمية الصحراء الغربية وأهميتها الامنية والتاريخية ولم يفطنوا إلى ذلك التميز والثراء الثقافى الذى تتسم به هذه المنطقة، حائط الصد الغربى لمصر.
والزائر والمتردد على هذه الواحات لاسيما الوادى الجديد سيلاحظ جيدا برؤى العين انتشارا واضحا ملموسا للقلاع والحصون فى غالبية ارجائها «فرعونية كانت أم ورومانية» حيث كانت تلك الحصون تعهد فى إدارتها إلى أقوى القادة المصريين، فقد كانت هذه الواحات دائما مقصدا ومعبرا «بتسكين الباء» لحركات الجوار مثل تيار المهدية من السودان جنوبا، والتيار السنوسى من الغرب الليبى.
ومثلما ثراء تاريخها لايضاهيه ثراء، فإن جغرافيتها كذلك، فيكفى أن تعرف أن بها أهم طريقين فى تاريخ مصر، الأول هو درب الاربعين الذى يربط بين مصر وإفريقيا مارا بالواحات الخارجة إلى دارفور بالسودان، ثم الطريق العرضى الذى كان يطلق عليه الدرب الطويل، وهو طريق يقطع الخريطة المصرية عرضا من ميناء «عيذاب» بالبحر الحمر إلى الواحات غربا، ومن الداخلة يتجه شمالا ليمر بالواحات البحرية ثم سيوة إلى المغرب العربى، وهو الطريق الذى يعرفه المغاربة بطريق الحج، مما كان له بالغ الأثر فى إحداث التلاقح الثقافى والبشرى بين سكان الواحات والقبائل الامازيغية الوافدة من الغرب، وستلاحظ ذلك بوضوح فى واحة سيوة.
لقد ظلت الواحات الخمس فترات طويلة، مقصدا محمودا للهجرات الجماعية للمسيحيين اثر اضطهاد الرومان لهم، ومن يزور كنائس البجوات فى الخارجة سيعرف جيدا ماكان يتمتع به المسيحيون من حماية منحتهم الطمأنينة والقدرة على إبراز مهارتهم فى الانتاج الزراعى والحرفى والقدرة على خلق مجتمعات جديدة وبؤر إنتاجية داخل هذه الكنائس والاديرة جعلتها تعتمد فى حياتها على الاكتفاء الذاتى.
وربما يكون ذلك سببا أو واحدا من الأسباب التى جعلت «الواحات الخمس» أرض زراعة القمح «خاصة فى العصر الروماني» وما شهدته هذه الحقبة من تطوير هائل لأساليب وطرق حفر الآبار الجوفية «خاصة فى الفرافرة» التى تعتمد زراعة العشرة آلاف فدان ضمن المليون ونصف المليون فدان على بعض منها، ولعل بقايا الصوامع فوق الهضاب المرتفعة والتى كان يخزن فيها المحصول الهائل للقمح تمهيدا لنقله إلى روما خير شاهد على ذلك، وهنا يستحضرنى مثل شعبى نردده دوما ولكن نفسره بالخطأ على أنه يقصد به الفوز بوظيفة حكومية وهو «اللى مايلحقش الميرى يتمرغ فى ترابه» والميرى هنا يعنى تراب القمح حيث كان يلقب القمح بالميره، وبأمر الامبراطور الرومانى كان ممنوعا على المصريين الحصول ولو على حفنة قمح من هذا المخزون، ونتيجة لذلك كانوا ينتظرون حتى ينتهى الرومان من نقله ويقومون هم بالتمرمغ والتنقيب فى ترابه بحثا عن القمح، وبطبيعة الحال لايمكن أن ننسى ماذكره المؤرخون أيضا أن الواحات البحرية كانت المصدر الأهم لإنتاج النبيذ فى العصرين الرومانى والفرعونى، ويقال فى ذلك إن الملوك الفراعنة كانوا يقضون اوقاتهم الترفيهية فى الواحات البحرية.
وعلى ذلك تكمن الاجابة على السؤال الذى يروق للبعض طرحه.. ماهى الفروق بين هذه الواحات الخمس؟.
تبدأ من الشمال ولكل واحة حكاية
تقول المفاهيم الجغرافية إن الواحة تعنى الأرض المنخفضة بدرجة يقترب فيها مستوى سطح الأرض من منسوب المياه الجوفية العذبة، مما يسمح بقيام حياة بشرية ونباتية، ولمن لايعلم قد تكونت هذه الواحات فى عصور بدء جفاف البحيرات الشاسعة تحديدا «بحيرة بير طرفاوي» الواقعة جنوب الواحات الداخلة وحتى هضبة العوينات فى الجلف الكبير اقصى الخط الجنوبى الغربى للحدود المصرية التى كانت تغطى مساحة كبيرة من الصحراء الغربية إبان العصر المطير الثانى.
والواحات المصرية الخمس تبدأ «من الشمال الى الجنوب» كما قلنا هى واحة سيوة، الواحات البحرية، واحة الفرافرة، الواحات الداخلة، الواحات الخارجة.
سيوة
تقع واحة سيوة فى أقصى شمال غرب مصر وهى الأقرب من الواحات المصرية إلى خط الحدود الليبية، أحد المراكز الادارية التابعه لمحافظة مرسى مطروح وتبعد عنها فى الاتجاه الجنوب الغربى بمسافة 300 كيلو، يعتمد نشاط سكانها على أشجار النخيل والزيتون والعمل السياحى، حيث تعتمد الحرف التقليدية فيها على التسويق السياحى، وتعتمد الزراعة فيها على العيون الفرعونية المتدفقة ذاتيا ولايوجد بها آبار، ويتحدث أهالى سيوة اللغة الامازيغية كلغة أولى، ولايتحدثون العربية إلا مع الوافدين عليهم فقط، أشهر الوقائع التاريخية المرتبطة بالواحة هى زيارة الاسكندر الاكبر لها. وقد انضمت الى السيادة المصرية فى عهد محمد على 1820، تسكنها 11 قبيلة، 10 قبائل من سكان الواحة الاصليين، بينما القبيلة الأخيرة هى بطن من قبيلة الشهيبيات من بدو أولاد على بمطروح، ويبقى أن تعرف أن واحة سيوة أكثر الواحات المصرية تأثرا بالتيار الدينى السنوسى، حيث ينقسم فيها السكان الى نصفين، نصف يتبع الطريقة الشاذلية والآخر يتبع الطريقة السنوسية.
الواحات البحرية.. والشيخ البويطى
وأما الواحات البحرية والتى تعد هى الاقرب لواحة سيوة وتبعد عنها 200 كم جنوب شرقها، تتميز بعدد من الواحات الفرعية وهى «الحارة ومنديشة والحيز الزاخرة بالآثار الرومانية، أشهر مدينة بها اسمها البويطى ويقال إنها سميت على اسم الشيخ البويطى «أحد الحجاج المغاربة كان ذاهبا إلى رحلة الحج ومات فيها» لا توجد بها حرف تقليدية سوى عصير الزيتون وتتسم بمناجم الحديد ولذا توجد بها الصحراء السوداء وتقترب من الصحراء البيضاء التى تعتمد عليها بعض الانشطة السياحية، بها مخارج ومداخل كثيرة وهى أقرب الواحات الى القاهرة «360 كيلو» تابعة اداريا لمحافظة الجيزة.
الفرافرة «أرض البقر»
يطلقون عليها أرض البقر نظرا لخصوبة اراضيها وهى الاكثر إنتاجا وزراعة، واحة الفرافرة التى تبعد عن الباويطى عاصمة الواحات البحرية جنوبا بمسافة 180كم، وهى اقل الواحات اتصالا بالعالم الخارجى، لم يعرفها المواطنون المصريون فى الدلتا والصعيد إلا منذ اوائل الثمانينيات من القرن الماضى حيث بدأت الهجرة الزراعية من قرى «كفر الشيخ والدقهلية» و«اسيوط وسوهاج» من الوجه القبلى فى عدد من التجمعات المستحدثة على طريق الداخلة، يقال إن اسمها نسبة الى راهب يسمى فرفورون لذا شهدت ازدهارا نسبيا فى العصر المسيحى والرومانى، تنتشر بها حرف النسيج اليدوى وزراعة النبق والمشمش والزيتون هى واحدة من الواحات الثلاث التى تتبع محافظة الوادى الجديد.
وتعد الواحات الداخلة هى الواحة الثانية التابعة للوادى الجديد وتقع جنوب شرق الفرافرة بمسافة 320 كيلو، هى الاكبر فى الواحات المصرية من حيث عدد السكان وحجم النشاط الزراعى والانتاج الحيوانى وبها قرى ومدن التراث الاسلامى «بلاط والقصر الاسلامية» والاكثر تعميرا وتنمية وحرفا تقليدية اشهرها السجاد وصناعات البناء والعمارة، تعد المركز الثانى فى الوادى الجديد بعد الخارجة.
وتبقى الواحات الخارجة «عاصمة الوادى الجديد» التى تبعد عن واحة الداخلة شرقا بمسافة 180 كيلو مترا، واحدة من اهم هذه الواحات، فلقد كانت ومازالت المعبر البرى المصرى الدائم إلى إفريقيا عبر طريق درب الأربعين، كانت هى الملاذ الآمن لحماية المسيحيين من اضطهاد الرومان، ويشهد على ذلك آثار أكثر من خمسين كنيسة تحت الارض عرفت بكنائس البجوات توجد بالقرب من جبل الطير، كانت هى الملاذ الآمن لاختباء ولوذ المسيحيين بها حماية من بطش الرومان، هذه الواحة تعد وطنا عربيا كبيرا لما تحملة قراها من مسميات لدول عربية إفريقية وآسيوية كثيرة منها السعودية والسودان وتونس وغيرها، هى الاقرب لمحافظة أسيوط ووسط صعيد مصر بمسافة 225 كيلو مترا، هى المركز الأهم لإنتاج قلعة جبل فوسفات أبو طرطور الذى يؤكد أن الحياة على أرض مصر بدأت من هنا.. فلكل واحة حكاية مثيرة إذا توافرت الفرصة وكان فى العمر بقية سنأخذكم إليها بمزيد من التفاصيل.
رابط دائم: