فرضت قضية الأمن المائى المصرى نفسها بقوة على أجندة القضايا والتحديات التى يتعين مواجهتها والتصدى لها، باعتبارها أهم وأبرز ملفات الأمن القومى المصرى على الإطلاق لأنه يتعلق ببقاء الدولة ذاتها.
ولقد انحصر دور الحكومات المركزية فى مصر، منذ الأزل، فى مسألة التحكم فى مياه نهر النيل وترويضه، سواء فى فترات الفيضان أو الجفاف، وكان جانب كبير من استقرار الحكومات والأنظمة متعلقا بقدرتها على ترويض النهر، والاستفادة من مياهه على أفضل نحو ممكن.
ولقد ارتبطت مشروعات النهضة الشاملة والحقيقية على أرض مصر بنهر النيل، وبإدراك القيادة السياسية أهمية النهر فى تحقيق هذه النهضة، وقدرتها على الاستغلال الأمثل لمياهه.
وبعيدا عن أى تحيز، أو مجافاة للحقيقة؛ فقد شهد تاريخ مصر الحديث بجانب التجربة الحالية للتنمية الشاملة، مشروعين شاملين للنهضة، لا ينكرهما منصف أو محايد، الأول فى عهد والى مصر محمد على باشا الذى أدرك بوعيه الإستراتيجى الفطرى، أن الزراعة فى مصر هى عصب الاقتصاد، بل هى عصب الحياة على مدار تاريخها، وأن مياه النيل هى عصب الزراعة، ومن ثم دشن كثيراً من المشروعات المائية من قناطر وترع، وغيرها.
وكذلك إدراكه العميق أبعاد الأمن القومى المصرى، وبأنه يتعدى بكثير حدود مصر السياسية، من جميع الاتجاهات، وأنه لا سبيل لبناء دولة مصرية قوية قادرة ومؤثرة دون حماية وتأمين هذه الأبعاد، وفى العمق من ذلك كان الحفاظ على نهر النيل وضمان استمرار وصول مياهه إلى مصر، وما كانت حملته لضم السودان لمصر عام 1820 سوى انعكاس لهذا الإدراك الإستراتيجى.
مشروع النهضة الثانى، جاء مع الرئيس جمال عبد الناصر الذى جعل من القارة الإفريقية الدائرة الثانية لدوائر الأمن القومى المصرى، وأحد أبرز مناطق مد النفوذ والتأثير، وقدمت الدولة المصرية فى سبيل تحقيق ذلك الكثير، من مساندة دول القارة فى الحصول على استقلالها من المستعمر، وتقديم المساعدات الاقتصادية واللوجستية، والفنية لشعوبها من أجل تعميق ترابطها بمصر وشعبها، ولعل مؤيدى ومعارضى الزعيم عبد الناصر بل والتاريخ يشهدون بما حققه عبد الناصر من نجاح كبير على هذا الصعيد، وكل ذلك كان من أجل حماية الأمن المائى المصرى.
ولم يكن يخطر بخلد أحد أن إفريقيا يمكن أن تضر بأمن مصر فى يوم من الأيام، حتى ابتعدت مصر عن القارة وعن شعوبها، حين غابت الرؤية وضاع الإدراك والوعى بأهمية القارة فى حماية شريان الحياة لمصر، وبفعل سياسات عقود طويلة من إهمال للعلاقات المصيرية مع إفريقيا، جاء الرد الإفريقى، بتهديد الأمن المائى المصرى، فأصبحنا أمام هذا المأزق الحالى.
وبغض النظر، عن خطئنا التاريخى والاستراتيجى، حين تركنا مكاننا ومكانتنا فى القارة الإفريقية خالية لألد أعدائنا ومعاونيهم، وأكثرهم طمعا فى مياه النيل، فإن المرحلة الراهنة تتطلب منا أن ننتقل من مربع البكاء على اللبن المسكوب، والبحث عن الأسباب، إلى مربع الفعل والمواجهة الحاسمة، والانطلاق من رؤية إستراتيجية جديدة، وغير تقليدية للتعاطى مع هذا المأزق، الذى تواجهه الدولة المصرية.
هذه الرؤية الإستراتيجية غير التقليدية، وبجانب استعادة دورنا وعلاقاتنا فى القارة، يجب أن تتضمن جميع البدائل وسبل مواجهة الأزمة.
وبكل تأكيد يد التعاون والسلام ممدودة لأبعد الحدود وعلى الدوام لأشقائنا الأفارقة، فنحن منهم وهم منا، وهم الأبقى لنا، ونحن الأبقى لهم. ولكن ما أن يعجز أى منهم عن فهم أن ملف الأمن المائى المصرى مسألة وجود للشعب المصرى، فلابد أن يكون لدينا من الوسائل والأدوات التى يمكننا بها أن نصحح المسار، ونبعث رسالة إلى الجميع، وفى مقدمتهم القوى الدخيلة على القارة التى تتصور أن بإمكانها استغلال فقر أو ضعف شقيق إفريقى للإضرار بأمن مصر المائى بأن لدينا الإرادة والقدرة على حماية هذا الأمن، وحقنا فى الحياة، وأن بقاء الدولة المصرية، والحفاظ على حياة الشعب المصرى خط أحمر.
لمزيد من مقالات سامى شرف رابط دائم: