كان علماء المسلمين فى القرن العاشر الميلادى أى القرن الرابع الهجرى يقسمون العلوم إلى علوم عربية وإلى علوم الأوائل. وكان أول من قام بهذا التقسيم هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمى فى كتابه «إحصاء العلوم» حيث يقول فى مقدمة الكتاب: «وحملته مقالتين، إحداهما لعلوم الشرائع وما يقترن بها من العلوم العربية، والثانية لعلوم العجم من اليونانيين وغيرهم من الأمم».
ويقول دوبور فى كتابه «تاريخ الفلسفة فى الإسلام»: «وكان الأولى عندهم علوم اللسان والفقه، والكلام، والتاريخ، وعلوم الأدب، ومن الثانية العلوم الفلسفية، والطبيعية والطبية».
وقد عالج علم الطب كل من أبقراط وجالينوس وديوقراط ومن ساروا فى طريقهم. ويعلم هذا العلم شفاء الأجساد من الأمراض. وهذا العلم جيد وحاسم فى استدلالته ولكنه يفيد فقط فى هذه الحياة، بالإضافة إلى ذلك فإنه لا يمثل أمرا عاما نظرا لأنه فى كثير من الأحيان نرى أن من يقيمون فى المناطق الصحراوية يشفون من أمراضهم دون طبيب ويتمتعون بصحة جيدة دون أى علاج مثل الذين يستخدمون الأدوية بل أكثر صحة منهم.
وقد تلقى العرب هذه العلوم من الإغريق ولكن أصلها يعود إلى المعرفة التى وهبها الله للإنسان وتعتمد أهميتها ودرجتها على فائدتها بالنسبة للحياة الكاملة للإنسان. وقد عُنى خلفاء المسلمين بعلم الطب وكانت عناية الملوك والحكام بالطب لذاته من أكبر الأسباب التى جعلتهم يعهدون إلى كثير من المترجمين نقل كتب اليونان إلى اللسان العربي. وقد بدأت الترجمة فى الواقع فى عهد بنى أمية حيث أمر الأمير خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى عام 85هـ بنقل كتب الطب والنجوم والكيمياء. ويقول إن هذا كان أول نقل فى الإسلام ويقال أيضا جرى نقل الديوان من الفارسية أيام الحجاج بن يوسف الثقفي، ونقل كتاب آهرون القس فى الطب، وذلك بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز.
يذكر صاحب كتاب «طبقات الأطباء» أن المنصور مرض واستعصى مرضه على أطبائه فأشاروا عليه باستدعاء جورجيس بن جبريل رئيس أطباء جنديسابور، فاستقدمه وعالجه حتى شُفى ونقل كثيرا من كتب اليونان. فلا عجب بعد هذا أن يظهر فى الطب تأثير النظريات الرياضية والطبيعية والمنطقية أيضا، فبينما كان الطبيب حتى ذلك العهد يكتفى بما انتهى إليه من التعاويذ السحرية ومن وسائل أخرى محصتها التجارب، فإذا بالمجتمع الجديد الذى نشر فى القرن الثالث الهجرى يوجب على الطبيب معرفة الفلسفة، فصار يجب عليه الإلمام بطبائع الأغذية، والأطعمة والأدوية وأمزجة الجسم، وكان يوجب عليه أيضا أن يكون على معرفة بفعل الكواكب فى كل ما يعرض له من حالات. وأصبح الطبيب أخا للمنجم يطيع كلامه ويحترمه، لأن موضوع التنجيم كان أشرف من موضوع الصناعة الطبية. وكان على الطبيب أن يتخرج على أيدى علماء الكيمياء، وأن يمارس فنه طبقا لمناهج رياضية منطقية.
وكانت أصول الطب يجرى بحثها فى مجالس العلم بقصر الخليفة الواثق (227 ـ 232هـ) إلى جانب مسائل الكلام والفقه. وكان البحث بمناسبة مناقشة كتاب لجالينوس بالنسبة إذا ما كان الطب يستند إلى السنة المأثورة عن القدماء أو إلى التجربة، أو هو يجرى ادراكه بأوئل العقل أو هو يؤخذ من قضايا الرياضيات والعلم الطبيعى بطريق القياس المنطقي.
ومن أكبر الأطباء أبوبكر الرازى الذى ولد بالرى وكانت سنة وفاته 313هـ. وتثقف الرازى ثقافة رياضية، ثم أقبل على تعلم الطب والفلسفة ويقول صاحب كتاب «طبقات الأمم» إنه سمى طبيب المسلمين وكانت كتبه الطبية هى أكبر كتب الطب فى العصور الوسطى وقد ترجمت إلى اللاتينية وظل الرازى هو حجة الطب فى أوروبا لا ينازع حتى القرن السابع عشر الميلادي. وبعد أن تولى إدارة بيمارستان الرى وبغداد شرع فى الأسفار ونزل فى قصور ملوك كثيرين، منهم منصور بن إسحاق السامانى وقد وضع الرازى باسمه كتابا.
وكان الرازى يعظم صناعة الطب كما يقول دوبور وما تتطلبه هذه الصناعة من دراسات. «وهو يؤثر الحكمة التى تضافرت على تكوينها القرون ووعتها بطون الكتب ويعتبرها خيرا من التجارب التى يكتسبها شخص واحد فى حياته القصيرة، وهو يفضل هذه التجارب على نتائج الاستدلالات المنطقية التى لم تمحصها التجربة». (تاريخ الفلسفة فى الاسلام) ظلت نظريات جالينوس مسيطرة على الفكر الطبى حتى النهضة الغربية فى القرن السابع عشر ولم يعارضها أحد من الأطباء العلماء سوى الطبيب العالم العربى ابن النفيس الذى مارس الطب ودرسه فى القاهرة فى القرن الثانى عشر، الميلادى المسمى أيضا بالقرشى الذى ترجع أصوله إلى قبيلة قريش. وابن النفيس هو الذى أقر وجزم بأن الدم إنما يسرى من البطين الأيمن إلى التجويف الأيسر عن طريق الرئة، ووصلت الجرأة به إلى نقض جالينوس ونقض الشيخ الرئيس ابن سينا. فقد ذهب ابن النفيس إلى أن التشريح يكذب وجود أى منافذ بين البطينين، وفى هذا مايدل على إجرائه عمليات تشريحية لم يكن مسموحا بها فى ذلك الوقت إلا أن ابن النفيس كان يقوم بإجرائها سرا. فكان لهذا الطبيب العبقرى الفضل فى وصف الدورة الصغيرة أو ما تعرف بالريجوية أول مرة، ولم يهتد إلى تعميم الصورة ووصف الدورة الكبيرة ولقد زعم بأن تعاليم ابن النفيس ظلت منسية إلى مايقرب من سبعين عاما تقريبا وذلك عندما قدر لها البعث وعرفها العالم، وذلك بفضل طبيب مصرى وهو الدكتور محيى التطاوى الذى كشف فى برلين خلال دراسته للحصول على درجة الدكتوراه عن مخطوطة «شرح تشريح القانون» لابن النفيس الذى قام فيها بشرح كتاب «تشريح القانون» للشيخ الرئيس ابن سينا وهو الكتاب الذى جاء فيه هذا الكشف الخطير غير أن هناك مايدل على أن تعاليم ابن النفيس لم تنس فى البلاد العربية ولم تغفل فى البلاد الغربية. وللحديث بقية.
لمزيد من مقالات مصطفى محرم رابط دائم: