-
طوابير ممتدة لمشاهدة بقايا ابنتى «الملك الشاب » اللتين دفنتا معه
أتت كنوز توت عنخ آمون إلى لندن.. ليست المرة الأولي، فقد أتى الفرعون الذهبى بكنوزه عام 1972 ليصطف الآلاف يوميا أمام المتحف البريطانى لإلقاء نظرة على القناع الذهبي، وخلال وقت قصير كان أكثر من مليون ونصف المليون شخص قد زاروا المعرض. اليوم تصطف الطوابير نفسها ممتدة لعشرات الأمتار لرؤية الفرعون الشاب فى زيارة للندن ستكون الأخيرة قبل أن يستقر فى المتحف الكبير بالجيزة لدى الانتهاء منه.
يخرج الزوار وأنفاسهم مبهورة تماما ،كما كان عليه الحال فى السبعينيات. لكن معرض توت عنخ آمون 1972 غير معرض توت عنخ آمون 2019. الأول كان عن «الفرعون الذهبي» بكامل أبهته وقوته، والثانى عن «الملك الشاب» بقوته وضعفه، وعاداته وهواياته، وثيابه وطعامه، وصلواته ومعتقداته، وسعادته وحزنه.
ففى المعرض يتحول توت عنخ آمون لشاب وليس لفرعون فقط. فالمقتنيات المختارة بعناية تلتقط الملك الشاب خلف القناع. فقد مات وهو ما زال فى التاسعة عشرة من العمر ودفن طفلتين ولدتا قبل آوانهما. أما العصى الكثيرة التى عُثر عليها فى المقبرة، التى يُوجد عدد منها فى معرض لندن، فتشير إلى أنه منذ سن صغيرة عانى ألما من العظام أجبرته على الاعتماد على عصا خلال الحركة.
لكن يبدو أن توت عنخ آمون كان صلبا ومتفائلا ومغامراً أيضاً حيث توجد وسط المقتنيات ألعاب من العاج لتمضية وقت مع المقربين منه، وأدوات لصيد السمك، وعربات للترحال في الصحراء الذهبية، وسرير مريح متنقل كان يأخذه معه خلال رحلات صيد الأسود، ومسند أنيق للقدم، ونعال من الذهب، ومجوهرات مرصعة بأحجار تتألق ألوانها بانسجام كأنها صُممت اليوم، وقفاز من الكتان ارتداه توت عنخ آمون قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
الـ150 قطعة، وبينها 60 قطعة لم تُعرض من قبل خارج مصر، والتي وزعت بين 3 قاعات كبيرة في «جاليري ساتشي» غرب لندن تترك مساحة للتأمل في كل قطعة. وتقول أنيتا صموئيل ،الباحثة اليونانية في علوم المصريات لـ«الأهرام»: تلقي القطع الـ 150 الضوء علي الفرعون الذهبي أكثر مما لو كان عدد القطع المعروضة ثلاثة أو أربعة أضعاف...فعدد القطع يمنحك وقتا للتفكير في كل قطعة ودلالاتها، وكلها تعطي صورة حميمية يومية عن حياة توت عنخ آمون الشاب»، وهي مثل أي حياة كان بها أوقات صعبة. فقد أثبتت تحاليل للحامض النووي قام بها البروفيسور روبرت كونولي، أستاذ الأنثربولوجي في «جامعة ليفربول» والذي عمل مع السلطات المصرية لتحليل رفات الملك الشاب، أن بقايا الجنينين المدفونين مع توت عنخ آمون هما لابنتي الفرعون الذهبي اللتين توفيتا لأنهما ولدتا قبل أوانهما. وكان الجنينان المحنطان للابنتين قد تم تخزينهما في كلية الطب بجامعة القاهرة منذ أن اكتشفهما عالم المصريات هوارد كارتر لأول مرة في قبر الملك الشاب علي الضفة الغربية للأقصر عام 1922 ،وظلت هويتهما مصدر خلاف إلي أن حسمتها تحاليل الحامض النووي قبل نحو 10 سنوات فقط.
وتوضح أنيتا صموئيل» يمكنك أن تقف طويلاً أمام المشغولات الذهبية وتشعر بالذهول من روعتها. لكن الوقوف أمام الطفلتين المحنطتين تجعلك تفكر طويلاً في الألم الذي لابد وأن شعر به عندما ولدتا ميتتين. لابد أن الألم كان كبيراً، فهو دفن بقايا الابنتين معه آملاً في أن يراهما علي الجانب الآخر من العالم».
وما زالت مقتنيات توت عنخ آمون حتي اليوم تكشف خبايا عن جوانب في حياة الفرعون الذهبي وحياة المصريين القدماء علي رأسها التقدم الطبي والعلمي المذهل حتي بمعايير اليوم، فنحو 70% من المكونات الصيدلانية المستخدمة في الأدوية من قبل المصريين القدماء لا تزال تستخدم حتي اليوم كما أشار البروفيسور كونولي.
سيمفونية متغيرة من الألوان
ولا تخدعك العتمة التي تتسلل للقاعات الثلاث والتي لا يكسرها سوي إضاءات منتقاة لإظهار القطع الـ150، وإضاءة من شاشة عرض تليفزيوني تظهر الجغرافيا التي أتت منها تلك الكنوز .. صحراء وادي الملوك، حيث يظهر مكتشف المقبرة هوارد كارتر، راكعاً يمحص الكنوز التي عثر عليها عندما تعثر صبي مصري كان يحمل له الماء علي سلالم خفية تحت الرمال قادت كارتر عندما نقب تحتها إلي مدخل المقبرة ،التي تعد أصغر مقابر وادي الملوك من حيث المساحة.
يحكي الراوي ،علي خلفية صور من وادي الملوك بالأبيض والأسود ،قصة كارتر الطويلة للعثور علي كنز كان واثقاً من وجوده في تلك الصحراء الذهبية الخلابة التي يداعب نهر النيل أطرافها. هناك كثير من الرجال المتعبين من الحر وكثرة التنقيب والتدقيق في خرائط ورسومات،لكن كل هذا التعب يتلاشي عندما تتطلع للعين للتماثيل الخشبية المذهبة للملك الصبي وهو يقود سفينة أو يقف علي ظهر فهد أو يصيد الأسود، أو عندما تري السلاسل الذهبية الخالصة والمجوهرات المذهلة التي وضعت علي جسده مزينة بالصقور والثعابين ومطوية في لفائف المومياء الخاصة به، أو الصناديق الصغيرة التي صنعت لحفظ قلب وكبد وأمعاء توت عنخ آمون. إزالة الأعضاء من داخل الجسم خوفا من أن يؤدي بقاؤها إلي افساد التحنيط كان طقسا فرعونيا معروفا، ولم يكن يتم تحنيط المخ، فلدي المصريين القدماء إيمان بأن القلب هو كل شئ، هو مصدر الشعور والتفكير معاً.
وبعدما تتعود عيناك علي العتمة الأولي، تبدأ سيمفونية من الألوان اللانهائية تتألق في المعرض بأناقة، فالقطع الـ150 الكثير منها من الذهب أو مغطاة بالذهب. وهج الذهب الدافئ يتدفق مثل النيل عبر غرف المعرض يربط كل شئ ويُظهر كل الألوان الأخري. اللون الأزرق الملكي لتمثال مصقول، واللون الأبيض البلوري لأواني زيوت عطرية أو آنية للشراب، واللون الأحمر القاني في خشب صندوق أبنوسي، أوعية بلورية من الكالسيت الأبيض الشفاف مع مقابض منحوتة بدقة، سرير ذهبي له كفوف أسد جميلة منحوتة بدقة رائعة تتألق رغم العتمة.
رحلة إلي الحياة الأخرى
مائة عام مرت منذ اكتشف هوارد كارتر مقبرة الفرعون الذهبي والعالم ما زال مأخوذاً بقدرة تلك المقتنيات علي إدهاشنا. ويعد المعرض الحالي، وهو من تنظيم وزارة الآثار المصرية وشركة «آي أم جي» في لندن والذي افتتح في 2 نوفمبر الجاري ويستمر حتي 3 مايو 2020، مثيرا للدهشة والتأمل بشكل خاص اذ يعتبر بمثابة «رحلة إلي الحياة الأخري» يأخذنا إليها الفرعون الشاب توت عنخ آمون بكل طقوسها والمكونات التي لا غني عنها كي تتم رحلة الانتقال من عالم الظلمة إلي الحياة الأبدية. فلم يُعثر من قبل علي مقبرة لفرعون مصري كاملة لم يتم تدميرها علي يد سارقي الذهب والمومياوات. وبالعثور علي مقبرة توت عنخ آمون عرف العالم لأول مرة من هو ذلك الفرعون وحياته وهواياته ومتاعبه الصحية وملابسه ومجوهراته وأثاث قصره وطعامه وأحذيته وقفازاته وعقيدته. تضم المقتنيات كرسيه الصغير الذي يُعتقد أنه جلس عليه خلال تتويجه وهو في التاسعة من العمر، وتعويذات للحماية، وتماثيل صغيرة تمثل مساعديه الذين سيقومون بخدمته عندما يعود للحياة، وطعامه المفضل الذي خزن في صناديق أحدها علي شكل بطة وأرغفة. ويؤكد جون نورمان، مدير إدارة المعارض في «أي إم جي» لـ«الأهرام» أنه يشعر بسعادة غامرة لمجئ المعرض الفريد للندن «فالكثير من المقتنيات لم تعرض من قبل في بريطانيا وهي بالنسبة للكثيرين فرصة قد لا تعوض للتعرف عن كثب علي أفضل ما انتجته الحضارة الفرعونية».
«كأس الأمنيات»
ومن أجمل مقتنيات المعرض «كأس الأمنيات» وهو إناء من المرمر الأبيض ومن أول المقتنيات التي وجدها كارتر وفريقه من المنقبين المصريين عندما فتحوا المقبرة في نوفمبر 1922. الإناء علي شكل زهرة لوتس، والمقابض علي شكل براعم زهرة لوتس تنمو لأعلي، فيما يجلس وسط البراعم الإله حُح، وأسمه يعني «اللانهائية» وهو رمز الأبدية والخلود. يحمل في كل يد فرعا من النخيل (فرع النخيل رمز السنة باللغة المصرية القديمة). أما اللوتس فرمز الميلاد، فمنه خرج رع إله الشمس من ظلمة المياه التي ملأت الأرض ليبدأ إعمار كل شئ بالنور.
وفوق الإناء نقوش بحبر داكن محفورة علي جانبي الكأس بدقة ووضوح، قام هوارد كارتر بنسخها وأرسلها لصديقه آلان جاردينر لترجمتها.
فعلي الجانب الأول من الإناء يُوصف توت عنخ آمون بـ»المحبوب من آمون رع رب عرش الأرضين... ورب السموات». أما علي الجانب الآخر فمكتوب «عسي أن تحيا «كا». عسي أن تقضي ملايين السنين. أنت الذي يحب طيبة تجلس والرياح الآتية من الشمال تداعب وجهك، وعيناك تحملان البهجة». وهي العبارة التي طلب كارتر نقشها علي شاهد قبره في «مقابر باتني» بشمال لندن حيث دفن عام 1939 بعد مرض مفاجئ أدي لموته. و»كا» في المعتقدات المصرية القديمة هو الروح أو النفس التي تبقي بعد الموت. وكان المصريون يضعون طعاما وشرابا لكي تتغذي «كا» إلي أن يعود الميت من عالم الظلام لعالم النور. ولأن الطعام والشراب المدفون مع الميت مهم لـ»كا»، كان المصريون يدينون من يسرق شيئاً من ممتلكات الميت، سواء كان الميت شخصا عاديا أو فرعونا، ويحذرون من أن السارق ترسل عليه «كا» لعنة أبدية لأنه منع خروج الميت من عالم الظلام إلي عالم النور. ومن المقولات في بعض النصوص الفرعونية مقولة :«اعمل لكابك شيئا حسنا في حياتك ينفعها بعد مماتك».
قصة البوقين
ووسط المقتنيات أيضاً هناك بوقان أحدهما من الفضة والآخر من البرونز وهما مزينان بإزهار اللوتس والآلهة المصرية. ولا تتعجب إذا نالا اهتماماً غير عادي من زوار المعرض. فالبعض يقف متأملاً فيهما لعدد من الدقائق. عمر البوقين 3300 عام وهما في حالة جيدة جداً ويمكن العزف بالنفخ فيهما... لكن أحداً لن يجرؤ علي القيام بذلك . ففي 16 أبريل عام 1939 ، تم استخدام البوقين، اللذين يستخدمان خلال الحروب، للعزف في بث مباشر لهيئة الإذاعة البريطانية(بي بي سي) من متحف القاهرة استمع إليه آنذاك نحو 150 مليون شخص. وفي تسجيل صوتي يقول مذيع «بي بي سي» إنه لأول مرة منذ أكثر من 3 آلاف سنة سيتم ولأول مرة سماع أبواق الفرعون الذهبي توت عنخ آمون وسيقود بالنفخ في البوق الفضي شخص اسمه جيمس تابيرن. لكن قبل العزف بدقائق انقطعت الكهرباء عن القاهرة وغرقت في ظلام دامس، وتم تسجيل العزف من المتحف المصري علي أضواء الشموع. وخلال العزف أضر تابيرن بالبوق قبل أن يتم إصلاحه، لكن تابيرن نفسه أصيب خلال العزف ودخل المستشفي، وخلال أشهر دخلت بريطانيا الحرب العالمية الثانية. وبسبب هذه الملابسات ادعي البعض ممن يؤمنون بـ «لعنة الفراعنة» أن الأبواق لها القدرة علي استدعاء الحرب.
علم مصريات من الأرفف الأكاديمية لشغف عالمي
بالنسبة لمصر يأتي المعرض لإحياء ذكري مائة عام علي اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون التي جعلت علم المصريات ينتقل من الأرفف الأكاديمية والبحثية، إلي الثقافة الشعبية في العالم كله ليتحول لشغف عالمي لا يتوقف تأثيره عند حد ما بل ليمتد ليشمل المعمار والفن والثقافة والفلسفة وحتي الأزياء وتصميم المجوهرات. هناك بالتأكيد مزايا مادية في انتقال المعرض لعشر مدن عالمية حقق فيها حتي الآن نجاحا غير مسبوق. ففي لوس انجلوس وباريس، وحالياً لندن يحقق المعرض اقبالاً غير مسبوق. وكان بالفعل الأكثر نجاحاً علي الإطلاق في فرنسا حيث زاره مليون ونصف المليون شخص. لكن الجانب المالي، علي أهميته والذي سيساعد في تمويل المتحف المصري الكبير في الجيزة، لا يقلل من أهمية الجانب الثقافي كما يقول وزير الآثار المصري خالد العناني، فالمعرض يفتح الباب أمام أجيال جديدة في العالم لاكتشاف تلك الحضارة الفذة، وبعدما ينهي الفرعون الذهبي جولته في المدن العشر سيكون قد رآه ما يقرب من 10 ملايين شخص، وقد يتشجع كثير منهم علي رؤية ما لم يغادر مصر من مقتنيات الملك الشاب وعلي رأسها القناع الذهبي وثلاثة توابيت ذهبية تمنع القوانين المصرية مغادرتها البلاد. ويصر عالم المصريات زاهي حواس علي أن الجولة العالمية الحالية ستكون الأخيرة للملك الشاب للخارج «فهو تعب من السفر» علي حد وصف حواس، موضحا أن الفرعون الذهبي سيستريح مع كل مقتنياته في المتحف المصري الكبير بالجيزة. لكن قبل أن يستريح سيتوجه الفرعون الشاب لأمريكا مجدداً واليابان واستراليا كي يشاهد العالم كنوزه المذهلة.
ليس الذهب هو ما يسلب أنفاس من يشاهدون مقتنيات الفرعون الشاب، إنما الحرفة والإبداع والتفاني. فقبل أكثر من 3300 سنة، تم استدعاء أفضل الفنانين في مصر علي عجل لتأسيس مقبرة للفرعون الذي مات فجأة. وما تركوه وراءهم من إبداعات هي من الروائع الأكثر حميمية في كل العصور، لم تخلد توت عنخ آمون فقط بل خلدتهم أيضاً.
رابط دائم: