تقع جزيرة مالطا فى البحر المتوسط. فيما قبل لم تكن هناك مالطا ولا غيرها. كان مضيق جبل طارق مجرّد سد بين مياه المحيط الأطلنطى وبين تلك الأراضى الواقعة بين أوروبا وإفريقيا، وكان يسمّى سدّ الموت. كان البحر المتوسط فى تلك الحقبة أرضًا جافة، ثم بدأت المياه تأتى من الأطلنطى رويدًا رويدًا. يواصل الكاتب الإنجليزى ويلز: لقد غرقت المناطق المنخفضة، وأصبحت فى الحوض الجاف مجموعة جزر تفصل بينها مساحات من المياه. ثم زادت حدّة المياه وزادَ اندفاعها. ماتَ أقوامٌ وهربَ آخرون. ونجح بعضهم فى بناء المراكب من أجل فك الحصار. مضى على ذلك العهد زمن طويل، وأصبحت الجزر الباقية مقصدًا للسيّاح. واحدة من تلك الجزر هى جمهورية مالطا التى تقع داخل البحر المتوسط، وهى دولة صغيرة.. حيث تصل مساحة محافظة أسيوط إلى ضعف مساحة مالطا ثمانين مرة!.
قبل سنوات تواصلت مع السيد يفجينى بريماكوف رئيس وزراء روسيا الأسبق، وجرى الاتفاق أن يكون اللقاء فى جزيرة مالطا. كان بريماكوف وزيرًا للخارجية ومديرًا للمخابرات ثم رئيسًا للحكومة. يقول وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف: إنّ بريماكوف أستاذي، وهو الذى وضع أُسس السياسة الخارجية لروسيا. ويقول الرئيس فلاديمير بوتين: إن بريماكوف رجل دولة ذو مكانة فريدة، وكنتُ استمع دائمًا إلى آرائه فى السياسة الداخلية والخارجية.
كان بريماكوف هو النجم العالمى الموازى لشهرة هنرى كيسنجر فى الغرب، وقد أسّسا معًا مجلس حكماء روسيا وأمريكا. كان كيسنجر يحاول صياغة الهندسة الجيوسياسية للعالم من منظور واشنطن، وجاء بريماكوف ليطرح فكرة مثلث روسيا والهند والصين ليصبح ذلك المثلث النموذج الأول لمنظمة بريكس.. فى إطار صياغة هندسية للعالم من منظور موسكو.
التقيتُ بريماكوف فى أحد الفنادق المطلة على مياه المتوسط شمال مالطا. ساعد الدكتور طه عبد العليم والسفير محمد شاكر, وهما صديقان لبريماكوف, فى إقناعه بتسجيل اللقاء تليفزيونيًا، وهو اللقاء الذى امتد ساعة كاملة. ولقد امتد النقاش مع بريماكوف أكثر من مرة فى هذه الزيارة، واحدةٌ منها كانت أثناء جولةٍ على الأقدام داخل المدينة العربية فى مالطا.
سألت بريماكوف عن عبد الناصر والسادات.. قال: كان عبد الناصر رومانسيًّا، وأمّا السادات فقد رفض الرؤية العسكرية للفريق الشاذلى خوفًا من تغيير قواعد اللعبة. وأقول: إننى لم أستطع أن أفهم ماذا كان يعنى بقواعد اللعبة هذه. وعندما سألت السادات حين التقيته بعد ذلك: ماذا كنت تقصد بقولك تغيير قواعد اللعبة.. نظر إلىّ وقام بتغيير اتجاه الحديث.
قلت لبريماكوف: إن السادات كان يدرك حدود القوة، وكان يرى أن هناك دعمًا لا محدودا من أمريكا لإسرائيل، ودعمًا محدودًا من الاتحاد السوفيتى لمصر. وهو بعد أن قرأ حدود الدعم وحدود القوة، اختار أن تكون السياسة إلى جوار السلاح. واعتقد أن هذا ما كان يعنيه السادات بقوله تغيير قواعد اللعبة. استمع إلىّ بريماكوف جيّدًا، ثم قال: تحليل غير مقنع.
قلت لبريماكوف: إن نموذجًا لذلك الدعم الذى لم يحدث.. ما قاله شمس بدران بعد عودته من لقاء وزير الدفاع السوفيتى أندريه جريتشكو: الاتحاد السوفيتى معنا.. الأسطول السوفيتى سوف يبطِّط الأسطول الأمريكي«. قال بريماكوف: لا أحد يدير حروبًا بالاعتماد على الخارج.. إن كلام وزير الدفاع السوفيتى لشمس بدران جاء فى سياق مجاملة.. كما تقولون فى مصر «مجرد كلام.. كنّا بناخده على أدّ عقله!». تلقيت تلك الإجابة الصادمة مذهولًا.. ثم مضيتُ إلى العراق.
قلت لبريماكوف: أنت صديق لصدام حسين، وكنتُ آخر من قابله قبل الغزو. لماذا برأيك لم يجنح صدام للسلام طالما أنّه لا يجيد الحرب؟ قال بريماكوف مؤيدًا: وأنا أضيف إلى تساؤلاتك: لماذا لم يأمر صدام حسين الحرس الجمهوري, الذى طالما هدد بقدراته, بخوض القتال؟ ولماذا لم يقم صدام بنسف الكبارى والجسور لمنع حركة العدو.. بل ترك احتلال البلاد سهلًا ويسيرًا على أىّ جيش؟! ثم فاجأنى بريماكوف بالقول: كانت هناك علاقات وثيقة بين صدام وأمريكا، هناك أسرار كبرى بينهما. ولم يتوقع صدام أبدًا أن تنقلب عليه أمريكا.. احتلالًا واعتقالًا وإعدامًا. ربما أوْحت له أمريكا بدخول الكويت، وربما اعتقد أنه يمكنه الاعتماد على أمريكا. لكن أمريكا حقّقت أهدافها هى لا أهدافه هو. ثم بادرتْ بإعدامه حتى لا تكون له الكلمة الأخيرة، ويسكت صوته، ويدفن سره إلى الأبد. تصوّر صدام أنّه سيتم تسليم الكويت إلى العراق، لكنّ ما حدث هو تسليم العراق إلى إيران.
استقر الحديث بعدئذٍ عند الفلسفة السياسية. قلت لبريماكوف: إن الإصلاح فى ظل الأيديولوجيا باتَ مستحيلًا، ذلك أن نجاح الإصلاح يعنى سقوط الأيديولوجيا ونهاية التجربة. وهكذا أدت محاولتكم الإصلاح فى الاتحاد السوفيتى إلى فشل الإصلاح وانهيار الدولة.
جاء تقدير بريماكوف مخالفًا لما طرحت.. قال: إن انهيار الاتحاد السوفيتى كان لأسباب موضوعية. الصين شيوعية يحكمها الحزب الشيوعي، وأجرت إصلاحات ضخمة، وأصبحت مركزًا رئيسيًا فى عالم اليوم. لا الأيديولوجيا انتهت، ولا الدولة انهارتْ. إن عنوان هزيمتنا فى الاتحاد السوفيتى لم يكن الأيديولوجيا.. بل كان الاقتصاد.
لقد كان بريماكوف أحد صنّاع روسيا المعاصرة. كان بوريس يلتسين هو الشخص الذى حطم الاتحاد السوفيتي، ومضى إلى تحطيم روسيا. انهارت العملة، وأفلست البنوك، وتبخرت ودائع المواطنين، ولم يكن فى روسيا سوى الفقر والفشل.. تزايدت حوادث الانتحار، وسادت أمراض القلب. ثم جاء بريماكوف، ومن مدرسته جاء فلاديمير بوتين.. ونجحت موسكو فى العودة من جديد. إنها واحدة من أكبر عمليات استعادة الأمل فى العصر الحديث. فى العالم العربى قام المتطرفون بهدم الحضارة، وتعطيل التاريخ. وفى روسيا نجح رجال بوزن بريماكوف فى تحطيم الفوضى، وترميم الإمبراطورية.
لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى رابط دائم: