فى ضوء قراءة جديدة لحرب أكتوبر المجيدة وقفنا فى المقالات السابقة عند ثلاثة دروس حتى الآن، هى فن التحدى والاستجابة، وكيفية تحويل الاستثناء إلى أسلوب حياة عن طريق تغيير نمط الإنتاج، وضرورة الوعى بحدود قدراتنا وتحديد الأمل وطريقة الفعل. وفى مقال اليوم سوف نتناول درسا آخر بالغ الأهمية، وهو: فن الحرب النفسية والحرب النفسية المضادة فى حرب أكتوبر. من المؤكد أنه لا انتصار ولا تقدم إلى الأمام إلا بدافع حيوى Elan Vital وطاقة كامنة تدفع الفَرد والمُجتمع إلى السير قدما فى تحقيق الذات. هذا ما طرحه أرنولد تُوينبى الفيلسوف والمؤرخ البريطاني. وهذا هو أحد أهم أدوار الشئون المعنوية فى أى جيش.
إن الروح المعنوية والمعالجة النفسية لمحو آثار هزيمة حرب 67، لعبت دورا جوهريا وكانت بمثابة الروح التى تحرك الجسد نحو النصر أو نحو الشهادة. ولهذا كانت الحرب غير ممكنة بدون خلق الدافع الحيوى عند الفرد وعند النخبة المنتقاة من القادة. ولهذا قامت الشئون المعنوية بتحويل الطاقة الكامنة إلى طاقة عاملة فى الواقع، وغرس الثقة بين الجنود بعضهم البعض، وبينهم وبين القادة، من أجل عبور القناة والتغلب على حواجز الصلب واللهب وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر ونظريته فى الأمن تماما.
وهنا يجب أن نتوقف كثيرا عند دور الشئون المعنوية فى الحرب النفسية التى لا تقل ضراوة ولا أهمية عن معركة المعدات العسكرية على الجبهة. ويذهب كثير من النظريات العسكرية إلى أن الحرب النفسية التى تقوم بها الوحدات المتخصصة أكثر أهمية من الحرب نفسها. وقديما وجدنا ذلك فى معركة بدر، ومعركة عين جالوت ضد التتار، وحديثا نجد ذلك فى حرب 6 أكتوبر.
والحرب النفسية ليست فقط ضد الخصوم فى العمليات ذات الطبيعة العسكرية، بل أيضا فى المجالات الأخرى الاقتصادية والسياسية، ودعم الجبهة الداخلية. وهناك أيضا الحرب النفسية المضادة. وتدخل فى الحرب النفسية الضوضاء المعلوماتية، والتضليل الإعلامي، وصناعة الوعى المعلب، وصناعة المعرفة المزيفة، وحرب الأفكار، والتلاعب النفسي، وعمليات غسل الأدمغة، والحرب العقائدية والأيديولوجية.
وللحرب النفسية أنواع عديدة، استخدمتها الشئون المعنوية بقواتنا المسلحة فى حرب أكتوبر، والتى كان اسمها آنذاك إدارة التوجيه المعنوي، منها الحرب النفسية الإستراتيجية ضد قطاع كبير من الجماهير المستهدفة، والحرب النفسية التكتيكية التى تستخدم فى القتال للتأثير على جنود العدو. وأيضا استخدمت إدارة التوجيه المعنوى المصرية الحرب النفسية للتدعيم، فالحرب النفسية ليست فقط موجهة إلى الخصوم، بل منها دعم المجموعات القتالية فى الجيش المحارب أو القوات الصديقة. وأيضا من أجل دعم الجبهة الداخلية والتماسك القومي. ويمكن أن نلمس ذلك فى أمور كثيرة كلنا نعلمها، لكن أود الإشارة هنا إلى أمر كثيرا ما ننساه، وهو أن تأثير العمل المعنوى نجح فى أن يمتد إلى استعادة الشعب المصرى نبله وقت التحديات الكبرى، فعلى مدى الحرب لم تحدث جريمة واحدة على أرض مصر.
وتعد الشائعات سلاحا من أسلحة الحرب النفسية فى تحطيم معنويات الخصم، والقضاء على إرادته للقتال أو المقاومة، وإشاعة جو من عدم الثقة، وإحداث البلبلة وافتقاد القدرة على الحكم الدقيق والتمييز بين الصادق والكاذب من الأخبار ... الخ. إن الحرب بالشائعات تنظم ضد العقول والنفوس وليس ضد الأجسام، وليس هذا بالأمر الهين، بل إنه كثيراً ما يحسم الكثير من المعارك قبل أن تبدأ فى ميدان القتال. ومن الأمثلة التاريخية على أسلوب الحرب بالشائعات، والتى مازالت نتائجها باقية حتى اليوم، هى غزوات جنكيز خان الفاتح المغولى والطاغية التترى المشهور. إن القيادة المصرية فى حرب أكتوبر نجحت بامتياز فى الحرب النفسية والحرب النفسية المضادة، ونجحت قبل حرب أكتوبر فى إحداث حالة من الضوضاء المعلوماتية، والتضليل الإعلامي، واستطاعت التلاعب النفسى بعقول القادة الإسرائيليين، بل أوهمت العالم كله أنها لن تحارب. وعلى مستوى الجبهة الداخلية حمت المصريين من عمليات غسل الأدمغة التى تقوم بها الدعاية المضادة. وأمام الدور القوى لإدارة التوجيه المعنوى حصنت الجنود من الحرب العقائدية والأيديولوجية مستخدمة فى ذلك الفن والدين بشكل بارع. ومما شكل حصنا منيعا أمام عمليات تحطيم المعنويات ضد الجنود المصريين، تلك العقيدة القتالية التى تم زرعها فى الضباط والجنود المصريين، والتى تراكمت عبر التاريخ، واستطاع القادة المصريون بلورتها بشكل صلب فى إطار لا يمكن خرقه ولا اختراقه عندما تحولت العسكرية المصرية إلى عسكرية نظامية وفق النظم الحديثة. وللحرب النفسية قواعد معروفة فى المراجع العلمية، لكن قادتنا فى حرب أكتوبر وقبلها كسروا كثيرا من قواعد تلك اللعبة، وحولوها إلى صالحهم، ففى الوقت الذى كانت الحرب النفسية الإسرائيلية تطبق ما قالت عليه الأبحاث العملية وأجهزة المخابرات العالمية بكل دقة، كانت القيادة المصرية توهم إسرائيل بنجاحها فى ذلك. وتمكنت مصر من إحداث حالة من العمى الاستراتيجى على الأرض.
وهذا بالضبط ما فعله السادات على نحو ماكر قبل حرب أكتوبر؛ حيث استهدفت الحرب النفسية التى قام بها الجيش الإسرائيلى خلق حالة اعتقادية عندنا وفى العالم بأن الجيش الإسرائيلى لا يُقهر. لكن السادات غير مفهوم الحرب النفسية المضادة بطريقة أذكى؛ فهيأ للإسرائيليين أنه مصدق لما يشيعونه عن جيشهم، وفى المقابل فإنه لم يواجه حربهم النفسية بحرب نفسية مضادة على طريقة عبد الناصر من أن جيشه أسطورى أيضاً وسيرمى إسرائيل فى البحر! وإنما أوحى إليهم بأنه أضعف من أن يدخل مع إسرائيل فى حرب، لتضليل الإسرائيليين وإيهامهم بأن مصر لن تحارب؛ حتى تكون الحرب عند وقوعها مفاجئة، ومحققة لشرط المبادأة بكل أبعاده الاستراتيجية. مع أن هذا كان يعرض السادات لضغط وسخط شعبى كبير. وكانت النتيجة نجاح القادة المصريين فى إحداث حالة من العمى الاستراتيجى للإسرائيليين. ولذا فإن حرب أكتوبر لم تكسر موازين القتال فقط على الجبهة، بل كسرت قواعد الحرب النفسية والحرب النفسية المضادة.
لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت رابط دائم: