يُعَدُّ اختلاف أئمة الإسلام وعلمائه رحمة من الله تعالى للأمة المحمدية، واتساعًا فى شئون حياتها وأمور آخرتها؛ فهو مظهر من مظاهر الآية الكريمة: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» [البقرة: 185]، وكما ورد فى الأثر المشهور: «اختلاف أمتى رحمة».
ويطلق مصطلح «الخلاف» إطلاقًا خاصًّا على العلم الذى يُهتم فيه بدراسة المسائل التى لم يتفق حولها المجتهدون قديمًا وحديثًا، نظرًا لخفاء الأدلة أو تعارضها، وكذا عدم الاتفاق حول ثبوتها، وهو المراد فى كلامهم إذا قالوا: «فى المسألة خلاف»، كما أنه لا يُعدُّ كل تعارض بين قولين خلافًا حقيقيًّا بينهما؛ فقد يُعبِّرَ أحد من المختلفين عن مراده بصياغة غير صياغة صاحبه، وهذا ما يُسمَّى بالخلاف اللفظي.
لقد تعامل النبى صلى الله عليه وسلم ومِن بعده علماء الأمة -الذين نهلوا من هذا المعين الرائق- عبر العصور المتعاقبة مع سنة الاختلاف والتنوع بمنهجية سامية مثلت غاية الرقى والكمال فى النظام الفكرى والاجتماعى للإنسان من خلال رسم الأطر المتينة والآداب الحكيمة التى وجهت ذلك الاختلاف الحاصل فيما بين المجتهدين - رغم تعدد مذاهبهم الفقهية وتنوع المسائل وتباين الفروع- إلى أن يكونَ اختلاف تنوع وتكامل، وليس اختلاف صراع واضطراب كما هو الشائع فى واقعنا الثقافى والاجتماعى المعاصر نظريًّا وعمليًّا.
لكن ما يلفت نظر أى متابع لواقعنا المعاصر يرى اضطرابَ فكرِ طوائف من الناس واختلال أعمالهم وبث بذور التفرد والتمايز والتفرق بين بنى جلدتهم، فى حين أن الأمة أحوج ما تكون إلى التماس نقاط التلاقى وزيادة محاور الاتفاق.
ولا يخفى أن هذه المظاهر السائدة تمثل عاملا معوِّقًا لأى نهضة يقوم بها نجباء هذه الأمة فى سبيل تقدمها وتشاركها مع الأمم الأخرى فى مسيرة الحضارة الإنسانية، وما كان ذلك إلا نتيجة غياب تلك المعالم السامية التى جرى عليها عمل الأمة فى القرون المتعاقبة فى التعامل مع سنة إلهية اقتضت وجود الاختلاف والتنوع بين العالمين، مما سبب انحرافًا كبيرًا ومنعطفًا خطيرًا فى مسيرة الأمة عند صنفين من الناس ظاهرَيْن:
أما الصنف الأول؛ فيتمثل فى الجماعات المتطرفة وأهل الغلو الذين أوغلوا فى تكوين منهجية موازية لما تعارفت عليه الأمة عبر تاريخها، فشذت وانحرفت دون أن يكونَ لأتباعها سلف ولا خلف؛ حيث انطلقوا فى التعامل مع قضية الخلاف الفقهى من خلال منهجية منحرفة، فحوَّلوا ابتداءً المسائل الخلافية إلى قضايا شغلوا بها عقل الأمة، ثم قاموا بتخطئة المخالف والإنكار عليه، وانتهاءً أطلقوا عليه أوصاف الفسق والابتداع، ثُمَّ وصل الأمر إلى حد التكفير وما يترتب عليه من عدم مراعاة حرمة الدماء.
وأما الصنف الآخر؛ فهو الساعى إلى الانحلال والتَّفلت من أحكام الشرع الشريف، وعدم الالتزام بالتكاليف تحت دعوى أن وقوع الخلاف فى فهم النصوص الشرعيَّة يسقط حرمتها ويهدر أحكامها؛ فضلا عن رؤيته المطلقة بأن كل شيء قابل للتغيير دون تفرقة بين ما من شأنه الثبات؛ كالاعتقاد والمبادئ ومنظومة القِيَم والأخلاق وبين ما من شأنه التغير، فضلا عن إطلاق الدعوة للاجتهاد والنظر دون الخضوع للقواعد والضوابط الناظمة والمنظِّمة لعملية الاجتهاد والإفتاء.
وهذا يحتم علينا فى المؤسسات الدينية الوقوف بإيجابية فى وجه هذه التحديات والمشكلات؛ انطلاقًا من الواجب الشرعى والمسئولية الوطنية، لذا ينعقد فى أثناء هذا الشهر مؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم تحت عنوان: «الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي»، كما رأينا أن نُسهم فى معالجة بعض الموضوعات المتعلقة بمنهجية إدارة الخلاف الفقهى فى عدة مقالات بهدف نشر وتوضيح سمات التعامل الصحيح مع الخلاف الفقهى سواء فى الشق النظرى أو فى الشق العملى أو طريقة التعامل مع المخالف حتى يمارس الإنسان المعاصر مهامه ووظائفه على بصيرة ووعى صحيح فى ظل الواقع المتغير من حوله.
لمزيد من مقالات د. شوقى علام رابط دائم: