رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

النباهة.. والاستحمار!

«عندما يشب حريق فى بيتك، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغى عليك أن تعلم أنها دعوة خائن.. فكيف بأى عمل آخر؟!؛ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ما هو إلا استحمار، حتى وإن كان عملا مقدسا أو غير مقدس».. كتب هذه الكلمات المفكر الإيرانى الراحل الدكتور على شريعتى، فى كتابه (النباهة والاستحمار)، الكتاب- أعزكم الله- فى الأصل محاضرة ألقاها المفكر الشهيد، للتحذير من غسل الأدمغة وتزييف الوعى على مستوى الأفراد والشعوب، من أجل ألا يقعوا ضحايا للخداع، والعبث بعقولهم وصرفهم عن التفكير فى وجودهم، من خلال إشغالهم بأشياء براقة زائفة، فيصيب المتلاعبون بالعقول أهدافهم، دون أن يدرى المخدوعون بما جرى.

يقوم الكتاب على فرضية أن الإنسان له قيمة ومسئولية كبيرتان، وعليه أن يعرف نفسه وطاقاته وإمكانياته جيدا، وهذا ما سماه شريعتى (النباهة الذاتية)، ومن أهم ثمارها ألا يتخلى الفرد عن نفسه بأى ثمن، من أجل مبتغى يريده. أما (النباهة الاجتماعية) فهى أن يكون الإنسان واعيا بدوره فى مجتمعه. ودون هاتين النباهتين لا نجاة لأى أمة من التخلف والانحطاط، والعكس صحيح؛ إذ إنه على مرّ العصور قامت جماعات وأنظمة بإلهاء وتخدير الإنسان عن النباهتين، وعن مطالبته بالحقوق الأساسية التى تكفل إنسانيته، كالحرية والاستقلال، من أجل أن تتمكن من تسخير طاقاته لمصلحتها، وهذا ما يسميه شريعتى (الاستحمار)، أى تحويل الإنسان إلى حمار تسهل السيطرة عليه. يستغل التسخير أدوات جوهرية وحداثية فى حياتنا، كالتربية والتعليم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى، وغيرها من الصور التى نراها ملاذنا الأوحد من الاستحمار، مع أنها تكون أحيانا الاستحمار بعينه.

إن الاستحمار هو تزييف العقول ومحاولة سلب النباهتين الذاتية والاجتماعية، تحت أى دافع، وحدد المفكر الإيرانى رباعية الاستحمار التى تعطل النباهتين، وهى: الاستغلال، الاستعمار، الاستبداد، الاستعباد. وللاستحمار نوعان: قديم وحديث، ويكون مباشرا وغير مباشر. ومن أبرز صور الاستحمار إثارة قضايا فى المجتمع، لإلهاء أهله عن قضايا أشد أهمية، تعطيلا للوعى المجتمعى، أما أخطر أشكال الاستحمار، فهو الحرب الإيهامية، بمعنى تفجير قضية فرعية، بجوار قضية أصلية، لإشغال الأذهان، مثلما يفعل الغرب مع شعوب العالم الثالث، خاصة الشرق الأوسط، بات العرب أكبر ضحايا الاستحمار أو أكبر المستحمرين، يندفعون فى تقليد الغرب فى سماته السلبية، لا الإيجابية، يفرطون فى التبعية والاستهلاك والمظهرية الفارغة من المعنى والقيمة؛

يشعل الآخرون النيران بأوطان العرب، فيطفئونها بخراطيم الدم، ينهب الغرب الثروات العربية برضا أصحابها، بينما يموت عرب آخرون جوعا ونزوحا ولجوءا وقهرا, يندفع بعض المجتمعات تحت وهم التحضر والتمدين إلى استهلاك منتجات الغرب والشرق، فيظن أنه لحق بركب الحضارة والتقدم، بينما هو مازال متخلفا تابعا، لا يجيد سوى شراء البضائع واستيراد الخبرات الأجنبية.

إن الإنتاج: صناعة وزراعة علما وتكنولوجيا، والمعارف والحريات هى بوابة الحضارة الحديثة، أما النهم الاستهلاكى، لا إنتاجى، فى المجتمع العربى، فمثال شاخص على الاستحمار. مثال آخر للاستحمار يهب من البرازيل، اندلعت الحرائق بغابات الأمازون فاتهم الرئيس بولسونارو، المعارضة بإلهاء الشعب عن نجاحاته الاقتصادية، ولاتزال الحرائق تنذر باختناق العالم.. أما الاستعمار القديم فيواصل العمل بأدوات جديدة، انظر لسلوكيات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، قضم القدس والجولان، ولا حياة لمن تنادى، فانفتحت شهيته لانتزاع جرينلاند من الدنمارك. كما لم يستنكف أن يستحمر الأمريكان والعالم بأسره، وهو يزعم أنه (المختار من الله) لخوض الحرب التجارية ضد الصين، حتى (اسم الله) لم يسلم من متاجرة ترامب أو غيره.

لاغرابة؛ فمنذ انقضاء عهد الرسل والأديان تسقط كثيرا بأيدى قوات استحمارية مضادة للإنسانية، تتخذ الدين وسيلة لاستحمار الشعوب، بإفراغ القيم الدينية والأخلاقية، من مضامينها وفاعليتها الاجتماعية، لتبقى مجرد عناوين غيبية، تسلب إرادة الإنسان فى صنع مصيره ومجتمعه، مثل الجماعات المتأسلمة المتطرفة التى تستحمر أتباعها وتتاجر بهم فى مواقف سياسية، كذلك اليمين المتطرف فى الغرب صانع النكبات الإنسانية والحروب العالمية لتمرير مشاريع الاستعمار والنهب، المعركة اليوم ليست بقوة السلاح فقط، بل أصبحت بسحب الفكر والتوجيه نحو ما يتوافق مع رغباتهم، فى سلبنا تراثنا ووعينا، فهم يصنعون الإنسان كما تصنع الأوانى بقوالبها..ما أكثر المتلاعبين بالعقول!.

حذر على شريعتى من الاستحمار، محاولا إيقاظ العقول من السبات العميق، انطلاقا من مسئولية المثقف تجاه مجتمعه، من أجل الحرية والنهوض، لأن أصدق مقياس لعمق ثقافة الفرد هو مناعته ضد الاستلاب والاستتباع.. وقانا الله شر الاستحمار.

[email protected]
لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن

رابط دائم: