رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وردة لايميلى

وليم فوكنر
ترجمة - عبدالسلام إبراهيم

عندما ماتت الآنسة إيميلى جريسون، خرجت بلدتنا عن بكرة أبيها لتشييع جنازتها، الرجال غشيتهم الرهبة والجلال لسقوط رمزٍ كبيرٍ، أما النساء فارتدين رداء الفضول لرؤية بيتها من الداخل، الذى لم يدخله بشرٌ من قبل ماعدا الخادم الذى يجمع بين وظيفة الطباخ والبستانى، وقد قضى على الأقل عشر سنوات فى خدمتها.

كان منزلاً كبيراً، مساحته مربعة، طُلى ذات مرة باللون الأبيض، زُين بالقباب وبالقمم، وبه شرفات دائرية صُممت بنظام السبعينيات الرشيق المتين، يقع فى شارعنا الذى كان متميزاً. لكن المرائيب ومحالج القطن تجاوزت ومحت كل ما هو تُراثى، حتى الأسماء التى تعود للعصر الأوغسطى. الذى بقى على حاله هو منزل الآنسة إيميلى فقط، فكان ذا بناءٍ راسخٍ يوشك على الانهيار فوق عربات القطن ومضخات الجاز، فيعكس منظراً يؤذى العين. حينئذ، ذهبت الآنسة إيميلى لتنضم للشخصيات التى تحمل أسماء أوغسطية، لكى يحصل كل منهم على مقبرة بين المقابر المصنفة بأنها مجهولة الشخصية لجنود الاتحاد الكونفدرالى الذين سقطوا فى معركة جيفرسون.

أثناء حياتها، كان لدى الآنسة إيميلى تقليدٌ وواجبٌ واهتمام، نوع من التزام متوارث تجاه المدينة، بدأ منذ ذلك اليوم فى عام 1894 عندما كان الكولونيل سارتواريس العمدة، الذى تزعم إصدار مرسوم يفيد بأن تُعفى الآنسة إيميلى من دفع الضرائب، بدأ هذا الإعفاء من موت أبيها حتى أبد الآبدين. لم تكن الآنسة إيميلى تقبل الإحسان، مما جعل الكولونيل سارتواريس يحيك حكاية مفادها أن والد إيميلى قد أقرض المدينة مالاً، ورأت المدينة أن تُعيد هذه الأموال بهذه الطريقة. رجلٌ واحدٌ من جيل سارتواريس يمكنه أن يخترع تلك الحكاية، وامرأة واحدة فقط يمكن أن تصدقها.

جاء الجيل التالى، بأفكاره الجديدة، وتمثل فى عُمدٍ وأعضاء مجلس مدينة جُدد، خلق هذا الاتفاق استياءً. فى العام الأول أرسلوا إليها إنذراً بالضريبة، جاء شهر فبراير، ولم يتلقوا منها رداً. أرسلوا إليها خطاباً رسمياً يطلبون منها أن تَمثُل أمام مكتب العمدة فى الوقت الذى يناسبها. بعد أسبوعٍ واحدٍ كتب العمدة لها خطاباً بنفسه، يعرض عليها أن يتصل بها أو أن يرسل لها سيارته، وتلقى رداً عبارة عن ملحوظة فى ورقة قديمة، مكتوبة بخط رفيع انسيابى بحبرٍ خافتٍ، نتيجة لذلك لم تعد تخرج على الإطلاق. أُغلق موضوع الضريبة أيضاً بدون تعليق.

تمت الدعوة لاجتماع خاص فى مجلس المدينة. فكانت النتيجة أن زارها وفدٌ خاص، طرقوا على الباب الذى لم يدخل من خلاله زائرٌ منذ أن توقفت عن إعطاء دروس فى التلوين الصينى منذ ثمان أو عشر سنوات. سمح لهم الزنجى المسن بالدخول لردهة ضيقة، يصعد من خلالها سلم حلزونى للأعلى. كانت رائحة التراب وعدم استعمال الأثاث وإغلاق المنافذ وكذلك رائحة الرطوبة تعبق المنزل. تقدمهم الزنجى إلى الردهة. كان بها أثاث ثقيل مغطى بالجلد. عندما فتح الزنجى إحدى النوافذ، اكتشفوا أن الجلد متشقق، وعندما جلسوا تطايرت وردة ممزوجة بتراب خامد على أفخاذهم، وتفتتت إلى ذرات متناهية الصغر من خلال أشعة الشمس الساقطة عليهم. عند الموقد، فى إطار ذهبى فقد بريقه، تقف لوحة كرتونية لوالد الآنسة إيميلى.

هبَّوا واقفين عندما دخلت، امرأة بدينة ترتدى ملابس سوداء، وسلسلة ذهبية رفيعة تتدلى حتى خصرها، وتختفى عند حزامها، تتكئ على عصا أبنوسية لها رأس ذهبية فقدت بريقها. كان جسدها هزيلاً، ربما لهذا السبب كانت تبدو بدينة بشكل أو بآخر.كانت تبدو منتفخة، كجسد غواصة طويلة متعددة الألوان فى ماء راكد، شاحبة اللون. عيناها تائهتان فى تجاويف وجهها البدين، تبدوان كقطعتين صغيرتين من الفحم مضغوطتين فى كتلة واحدة من العجين، تنتقلان من وجه لوجه بينما كان الزوار يؤدون مهمتهم.

لم تطلب منهم أن يجلسوا. وقفت عند الباب وأنصتت بهدوء حتى وصل المتحدث الرسمى إلى نقطة تعثر. ثم كان بإمكانهم أن يسمعوا الساعة غير المرئية تنقر فى نهاية السلسة الذهبية.

كان صوتها جافاً وبارداً: «لست ملتزمة بدفع الضرائب فى جيفرسون. لقد فسَّر لى الكولونيل سارتواريس بنفسه. ربما يستطيع أحدكم أن يرجع إلى سجلات المدينة، لكى تتأكدوا بأنفسكم.»

«لكن معنا السجلات. نحن نمثل سلطات المدينة، يا آنسة إيميلى. ألم تتلقى إنذاراً من العمدة، كتبه بنفسه؟»

«استلمت ورقة، نعم.» قالت الآنسة إيميلى، ثم أردفت قائلة «ربما يعتبر نفسه العمدة... لست ملتزمة بدفع ضرائب فى جيفرسون.»

«لكن ليس هناك شيء فى السجلات يؤكد ذلك، كما ترين نحن ملتزمون بـ...»

«قابلوا الكولونيل سارتوريس. لست ملتزمة بدفع ضرائب فى جيفرسون.»

«لكن، يا آنسة إيميلى...»

«نقابل الكولونيل سارتوريس، (الكولونيل سارتوريس مات منذ عشرة أعوام).»لست ملتزمة بدفع ضرائب فى جيفرسون. ظهر توبى الزنجى. «ساعد هؤلاء السادة حتى باب الخروج.»

هكذا قهرتهم، كما قهرت آباءهم ثلاثين عاماً قبل أن تفوح الرائحة.

كان ذلك بعد عامين من موت أبيها، وبعد وقت قصير بعد أن هجرها حبيبها الذى كانت تعتقد أنه سيتزوجها..بعد موت أبيها ابتعدت قليلاً، وبعد أن هجرها حبيبها كان الناس قلَّما يرونها. كانت بعض النساء ينادين عليها، لكنهن لم يجدن رداً منها، والعلامة الوحيدة التى تدل على الحياة فى هذا المكان هو الرجل الزنجى... كان شاباً حينئذ...يدخل ويخرج بسلة التسوق.

»كما لو أن هناك رجلاً، أى رجل، يدير شئون المطبخ بانتظام.» هكذا قالت النساء، لذا لم يندهشن عندما زادت الرائحة. كان رابطاً آخر بين العالم الصاخب الخطير وبين عائلة جيرسون النبيلة ذات النفوذ.

رفعت جارة لها تبلغ ثمانين عاماً شكوى للعمدة، القاضى ستيفنز..

قال لها «لكن ماذا تنتظرين منى أن أفعل بخصوص ذلك يا سيدتي؟»

«أرسل لها تحذيراً.» هكذا قالت المرأة ثم أضافت «أليس هناك قانون؟»

«أنا على يقين من أن ذلك ليس ضرورياً.» قال القاضى، ثم استطرد قائلا «من المحتمل أن يكون ثعباناً أو جرذاً قتله الزنجى الذى يعمل عندها فى الباحة، سأتحدث إليه بخصوص هذا الموضوع.»

فى اليوم التالى تسلم شكوتين آخرتيين، إحداهما من رجل جاء باستنكار مختلف. «لابد أن نفعل شيئاً بخصوص هذا الموضوع، أيها القاضى.سأكون آخر واحد فى الدنيا يزعج الآنسة إيميلى، لكن لابد أن نفعل شيئاً.» تلك الليلة اجتمع مجلس المدينة... ثلاثة من الكبار وآخر شاب، عضو من الجيل الجديد.

قال «الأمر بسيط جدا.». ثم أردف «أرسل لها إنذاراً بأن تنظف المكان الذى تعيش فيه. أمهلها بعض الوقت حتى تقوم بذلك، وإذا لم تنفذ...»

قال القاضى ستيفنز «اللعنة يا سيدى. هل تتهم سيدة بشكل مباشر من صدور رائحة نتنة من منزلها؟»

لذا فى اليوم التالى، بعد منتصف الليل، وطأ أربعة رجال عشب الآنسة إيميلى، وذهبوا خلسة إلى المنزل مثل اللصوص، يتشممون بالقرب من الجدران وعند فتحات القبو، بينما قام أحدهم كأنه ينثر البذور بيده من كيس يتدلى من كتفه. اقتحموا باب القبو، وقاموا برش زهور الليمون هناك، وخارج المبنى. عندما وطئوا العشب مرة أخرى، وجدوا أن النافذة التى كانت مظلمة قد أضُيئت، ووقفت عندها الآنسة إيميلى، كان المصباح خلفها، وجذعها العلوى بلا حراك، كما لو كانت صنماً. زحفوا خارجين بهدوء فوق العشب وفى ظل المنطقة الجرداء التى تؤدى للشارع. بعد أسبوع أو أسبوعين تلاشت الرائحة.

حدث ذلك عندما بدأ الناس يشعرون بالأسى من أجلها. الناس فى مدينتنا، يتذكرون كم أن الليدى وايت العجوز، عمتها، أصابها مسٌ من الجنون فى أواخر أيامها، تعتبر عائلة جيرسون نفسها فى مرتبه أعلى مما هى عليها. لم يكن أى من الشباب المقبل على الزواج يناسب الآنسة إيميلى.. كانت فكرتنا عنهم بأنهم كلوحة رائعة، تظهر فيها الآنسة إيميلى رشيقة ترتدى ملابس بيضاء فى الخلفية، أما أبوها فكانت صورته ظلِّية فى الخلف، يوليها ظهره، يقبض على سوط حصان، صورتهما معلقة على ظهر الباب الخارجى. لذا عندما وصلت إلى سن الثلاثين كانت لاتزال فتاة غير متزوجة، لم نكن عندئذ مسرورين لذلك، لكن كنا ندافع عنها، حتى فى ظل وجود الجنون المتوارث، فما كانت قد فقدت كل الفرص التى واتتها، هذا لو وُجدت بالفعل.

عندما مات أبوها انتقلت ملكية المنزل لها، بطريقة ما ارتاح الناس لذلك. أخيراً أصبح بمقدورهم أن يرثوا حال الآنسة إيميلى. ولأنها أصبحت وحيدة وفقيرة، فقد عادت لفطرتها الآدمية. أصبحت حينئذ تعرف الرواية القديمة واليأس المتوارث للمال سواء كثُر أو قل.

بعد موته بيومٍ واحدٍ توافدت النساء إلى المنزل لتقديم واجب العزاء وتقديم كافة أشكال العون، لأنها عادة من عاداتنا. قابلتهن الآنسة إيميلى عند الباب، هى ترتدى ملابسها المعتادة، بدون أن تظهر ملامح الحزن على وجهها. أخبرتهن بأن أبيها لم يمت. كررت ذلك لمدة ثلاثة أيام، وكان أثناء تلك الأيام يتصل بها الوزراء والأطباء يحاولون أن يقنعوها بأن تسمح لهم بدفن الجثة، لأنهم كانوا على وشك أن يلجئوا الى القانون والقوة، عندئذ انهارت، فدفنوا جثة أبيها سريعاً.

حينئذ لم نقل إنها كانت مجنونة. كنا نظن أنها اضطرت لذلك الفعل لشدة حزنها. تذكرنا كل الشباب الذين قضى أبوها على مستقبلهم، وعرفنا أن هذا الموضوع ليس له آثار الآن. لكن من الممكن أن تكون تلك الآثار منعكسة عليها، مثل الآخرين.

أصابها المرض لوقت طويل، عندما رأيناها مرة ثانية، كانت قد قصَّت شعرها، فجعلها تبدو كفتاة تشبه أولئك الملائكة الغامضين المرسومة صورهم على نوافذ الكنيسة... كان شكلها يحمل الصفاء الممزوج بالحزن.

أبرمت المدينة عقوداً لعمل أرصفة المشاة وفى فصل الصيف بعد موت أبيها بدأوا العمل. جاءت شركة الإنشاءات بمعداتها وبغالها، كان اسم رئيس العمال هومر بارون، وهو رجل ضخم الجثة، ذو صوت جهورى، عيناه صغيرتان بالنسبة لوجهه. كان الصبية الصغار يقطرونه فى جماعات، ليسمعوه وهو يلعن المعدات، ويغنى فى وقت الاستيقاظ ووقت الحفر. وفى وقت قصير جدا كان قد تعرف على كل سكان المدينة، فحينما كنت تسمع ضحكا فى أى مكان فى الميدان، عندئذ يكون هومر بارون موجوداً وسط المجموعة. فى وقت قريب جداً بدأنا نراه هو والآنسة إيميلى فى مساءات الآحاد يستقلان عربة بعجلات صفراء تجرها خيول متجانسة من الإسطبل.

فى البداية كنا سعداء لأن الآنسة إيميلى أصبح لها اهتمامات، لأن كل النساء قلن «بالطبع لن تفكر واحدة من عائلة جيرسون بجدية فى فتى شماليّ، عامل يومى.» لكن قال الآخرون وهم رجال مسنون، «لا يجعل الحزن سيدة ذات منبتٍ طيبٍ أن تنسى الالتزام بوضع القوة والنفوذ...

قالوا عنها بدون إلحاق صفتى القوة والنفوذ بها «إيميلى المسكينة. لابد أن يزورها أقرباؤها.» لديها أقرباء فى ألاباما، لكن انقطعت صلة أبيها بهم بسبب ممتلكات الليدى وايت العجوز، المرأة المجنونة، ولم يكن هناك تواصل بين العائلتين. لم يحضر أحد منهم الجنازة.

حالما قال الكبار «إيميلى المسكينة.» بدأ الهمس يتناثر. «هل تظنونها مسكينة بالفعل؟» قالوا لبعضهم بعضاً «بالطبع هى مسكينة. وأى صفة أخرى تتصف بها غير ذلك...» تأخرت تلك العبارة قليلاً، حفيف الحرير والساتان توقف عندما ارتفعت شمس ظهيرة يوم الأحد فى كبد السماء، بينما كان نقر الجياد المتجانسة يتعاقب بانتظام، فقالوا عندئذ «إيميلى المسكينة».

كانت تمشى ورأسها مرفوعا. حتى عندما اعتقدنا أنها سقطت. كان لسان حالها كما لو كانت تطلب اعترافاً بكرامتها أكثر من ذى قبل، بصفتها آخر فرد من عائلة جريسون، كما لو تطلب الأمر تلك اللمسة الدنيوية لتعيد التأكيد على انغلاقها. مثل حكاية شرائها سم الفئران، الزرنيخ. كان ذلك منذ أكثر من عام بعد أن بدأوا يقولون عنها «إيميلى المسكينة.»، وأثناء زيارة ابنتيّ عمها لها..

«أريد بعضا من السم.» هكذا قالت للصيدلى. كانت قد تجاوزت سن الثلاثين عندئذ، وكانت لاتزال امرأة ضئيلة، أكثر نحافة من المعتاد، وعينان سوداوان باردتان تطل منهما الغطرسة، فى وجهٍ مشدودٍ من عند الصدغ، وعند محجرى عينيها، كأنك تتخيل فناراً- فكان على الحارس أن ينظر.. «أريد سماً.» قالت.

»نعم، آنسة إيميلى، أى نوع؟ للفئران وما شابهها؟ أنا أوصى...»

«أريد أفضل الأنواع. لا أكترث أى نوع يكون.»

ذكر الصيدلى أنواعاً كثيرة. ثم قال «ستقتل كل شيء حتى الفيل. لكن ما تريدينه هو...»

«زرنيخ.» قالت الآنسة إيميلى. ثم أردفت «هل هذا نوع فعال؟»

«هل... زرنيخ؟ نعم يا سيدتى. لكن ما تريدين...»

«أريد زرنيخا.»

نظر الصيدلى إليها. بادلته النظرات، لكن بشموخ، كان وجهها كعَلَمْ متسامق. «بالطبع.» هكذا قال الصيدلى. ثم أردف قائلا «إذا كان هذا ما تريدين. لكن القانون يتطلب أن تذكرى سبب استخدامك له.»

حدَّقت الآنسة إيميلى فيه، فانتصب رأسها لكى تنظر إليه عيناً بعين، حتى طار ببصره بعيداً، وذهب لإحضار الزرنيخ، ولفه لها، فتى التوصيل الزنجى احضر لها الرزمة، لم يخرج إليها الصيدلى. عندما فتحت الرزمة فى البيت كان مكتوبا على العلبة، تحت الجمجمة والعظام: «للفئران.»

لذا قلنا فى اليوم التالي: «من المؤكد أنها ستنتحر» وقلنا سيكون هذا الحل أفضل شيء. عندما بدأت أول مرة تظهر مع هومر بارون، قلنا «ستتزوجه.»، ثم قلنا «ستقنعه بأن يتزوجها.» لأن هومر نفسه علق قائلاً... كان يحب صنف الرجال، وكان معروفاً عنه أنه يحتسى الشراب مع الشباب فى نادى أيكلس... بمعنى أنه رجل لا يرغب فى الزواج. قلنا بعد ذلك من وراء النوافذ. «إيميلى المسكينة» بينما كانت تمر يوم الأحد بعد الظهيرة فى العربة المتوهجة. كانت الآنسة إيميلى ورأسها عالياً، وهومر بارون يرتدى قبعة متشققة وسيجار بين أسنانه، يمسك لجاماً وسوطاً بقفاز أصفر.

ثم بدأت بعض النساء يقلن إنه كان مخزياً للمدينة ومَثَلاً سيئاً للشباب. لم يرغب الرجال فى التدخل، لكن أخيرا أجبرت النساء وزير شئون الدين، كان أهل الآنسة إيميلى متدينين، أن يستدعيها. لن يُفشى ما حدث فى المقابلة، لكنه رفض أن يرجع مرة ثانية. يوم الأحد التالى سارا فى الشوارع بالعربة، واليوم التالى وجهت زوجة الوزير خطابات لأقارب الآنسة إيميلى فى ألاباما.

هكذا أصبح لها أقارب مجدداً، وانتظرنا لكى نرى التطورات. فى البداية لم يحدث شيء. ثم كنا على يقين من أنهما سيتزوجان. عرفنا أن الآنسة إيميلى كانت عند الجواهرجى وطلبت أدوات حلاقة لرجل مصنوعة من الفضة، وحرفى «هــ. ب» محفورين على كل قطعة، بعد يومين عرفنا أنها اشترت ملابس كاملة لرجل، مثل ملابس النوم، وقلنا عندئذ «إنهما تزوجا بالفعل». كنا مغتبطين حقا. كنا مغتبطين لأن ابنتيّ عمها كانتا تنتميان لعائلة جيرسون أكثر من انتماء الآنسة إيميلى لها.

لم نندهش عندما رحل، كانت الشوارع قد رُصفت، هومر بارون. شعرنا بخيبة أمل لأنه لم يكن هناك هياجٌ عام، لكننا اعتقدنا أنه ذهب لكى يجهز نفسه من أجل الآنسة إيميلى، أو لكى يعطيها فرصة لكى تتخلص من ابنتيّ عمها. (بمرور الوقت أصبحت مؤامرة، وكنا جميعا حلفاء الآنسة ايميلى فى مراوغة ابنتيّ العم.) وكان ذلك كفيلاً بأن تغادرا بعد أسبوع. وبينما كنا نتوقع كل شيء فبعد أسبوع آخر عاد هومر بارون للمدينة. رأى أحد الجيران الرجل الزنجى وهو يسمح له بالدخول من باب المطبخ عند الغسق ذات مساء.

وكان هذا آخر عهد لنا برؤية هومر بارون، وكذلك إيميلى لبعض الوقت. دخل الزنجى وخرج بسلة التسوق، لكن الباب الأمامى ظل موصداً. على الرغم من كل شيء كنا نراها واقفة عند النافذة، عندما قام الرجال برش زهر الليمون، لكنها لم تظهر فى الشوارع لمدة ستة شهور. ثم عرفنا بعد ذلك أنه كان متوقعاً أيضا، كما لو أن طبيعة أبيها التى أحبطت حياتها كامرأة عدة مرات كانت قاسية وعنيفة جداً لذا كان موته مفاجئاً.

عندما رأينا الآنسة إيميلى بعد ذلك، كانت قد أصبحت بدينة وبدأ المشيب يتسلل إلى شعرها. أثناء الأيام القليلة التالية انتشر المشيب واحتل كل خصلات شعرها حتى أصبح كمزيج من الفلفل مع الملح الحديدى، عندئذ توقف عند هذا الحد. حتى يوم موتها فى الرابعة والسبعين كان شعرها يحتفظ بهذا اللون، مثل شعر شخص نشيط.

منذ ذلك الوقت ظل بابها الأمامى موصداً فيما عدا ست أو سبع سنوات، عندما أصبحت فى الأربعين، كانت تعطى أثناءها دروساً فى التلوين الصينى. أعدت فصلا فى إحدى الغرف الموجودة فى الطابق الأرضى، حيث أرسلت البنات والحفيدات معاصرى الكولونيل سارتواريس بنفس الانتظام وبنفس الروح التى كانوا يرسلونهن إلى الكنيسة يوم الآحاد بخمس وعشرين سنة. فى نفس الوقت تم إلغاء ضرائبها.

ثم أصبح الجيل الجديد عمود المدينة الفقرى وروحها. كَبُر تلاميذ التلوين، وتكاثروا ولم يرسلوا أبناءهم لها بعلب الألوان والفرش المملة وصور قُصَّت من مجلات النساء. أغلق الباب الأمامى بعد آخر صبى غادر، وظل موصداً. عندما دخلت خدمة توصيل البريد المدينة، رفضت الآنسة إيميلى أن يثبتوا أرقاماً معدنية على بابها، ويضعون بجوارها صندوق بريد. لم تستمع لهم عندما عددوا لها مزايا تلك الخدمة.

كنا نرى الزنجى يومياً وكل شهر وكل عام يشتعل رأسه بالمشيب ويزيد انحناءً، يخرج ويدخل بسلة التسوق. كنا نرسل لها إشعاراً بالضرائب كل ديسمبر، لكنه كان يرجع عن طريق البريد بعد أسبوع كما هو. على الرغم من أننا كنا نراها واقفة فى إحدى نوافذ الطابق الأرضى... كانت كأنها صنم فى كوة، تنظر أو لا تنظر إلينا، لم نستطع أن نخمن أيهما، لذا انتقلت من جيل لجيل، عزيزة،كتومة غير متأثرة بشىء، هادئة وغريبة.

وهكذا ماتت. وقعت طريحة الأرض المكدسة بالتراب وبالظلال، ينتظرها زنجى مرتعش. لكن لم نكن نعرف أنها كانت مريضة، مر علينا وقت طويل لم نحاول أن نستقى أية معلومات من الزنجى.

لم يكن يتحدث لأى شخص، حتى هى أيضا، لأن صوته أصبح صدئاً كما لو كان مهملاً.

ماتت فى إحدى غرف الطابق الأرضى، على فراش ثقيل ذى ستائر، رأسها المشيب مسند إلى وسادة صفراء تقولبت مع مرور الزمن وافتقرت إلى ضوء الشمس.

قابل الزنجى أول مجموعة من المعزيات عند الباب الأمامى وسمح لهن بالدخول مع أزواجهن ذوى الأصوات الرفيعة الخافتة والنظرات السريعة الفضولية، ثم اختفى. ترجل يميناً فى البيت ثم فى الخلف، ولم يروه مرة ثانية.

جاءت بنتا العم فى الحال. بدأتا مراسم الجنازة فى اليوم التالى، وأهل المدينة يتوافدون لإلقاء النظرة الأخيرة إلى جثمان الآنسة إيميلى المسجّى بين حشد من الورود، ووجه أبيها الملون بالطباشير يتأمل بعمق فوق التابوت والنساء المتشحات بالسواد، والرجال الذين يرتدون ملابس موحدة تقترب من نمط الزى، فى السقيفة وفوق العشب، يتحدثون كما لو كانت معاصرة لهم، ويعتقدون أنهم كانوا يرقصون معها ويغازلونها، الدهر المربك بتعاقبه الزمنى، كما يصفه الكبار، الذين لا يعتبرون الماضى طريقاً يتضاءل، لكنه مروج ضخمة لا يلمسها الشتاء، يتفرع منها عنق زجاجة خاصة بحقب زمنية حديثة.

كنا نعرف أنه كانت هناك غرفة واحدة فى هذا المنزل فى الأدوار العليا، لم يدخلها شخص ما خلال أربعين عاما، يجب أن تُقتحم. انتظروا حتى ترقد الآنسة إيميلى فى قبرها بسلام قبل أن يفتحوها.

العنف الذى استخدم فى اقتحام تلك الغرفة قد أثار التراب الكثيف الراكد. غطاء رفيع مثل الكفن يبدو فى كل مكان فى هذه الغرفة، يغطى الأثاث كما لو كانت معدة لعروس، فغطى الستائر ذات اللون الوردى الخافت، وفوق المصابيح ذات الظلال الوردية، وفوق منضدة التزين، وفوق أدوات حلاقة خاصة برجل ملفوفة فى فضة فقد بريقه، فقدت الفضة بريقها لدرجة أن المونوجرام كان معتماً. فوق كل ذلك توجد ياقة وربطة عنق، كما لو أن صاحبها فكها الآن، تُركا على السطح عرضة للتراب. بذلة معلقة فوق كرسى، ملفوفة بعناية، يوجد أسفله زوجان من الحذاء وجورب ملقى بإهمال.

كان الرجل نفسه مستلق على الفراش. وقفنا وقتاً طويلاً هناك، ننظر ملياً إلى الابتسامة العميقة والخافتة.كان الجثمان مسجيّ، ومتخذاً وضع العناق بشكل جزئى، لكن النوم الأبدى الذى يدوم أكثر من الحب، ويقهر متاعب الحب، قد فارقه إلى الموت. ماذا تبقى منه، تعفن تحت فيما تبقى من رداء النوم، أصبح لا يطيق الفراش الذى ينام عليه، وفوقه وفوق الوسادة بجواره يرقد غطاء المريض والتراب الجاثم هناك.

ثم لاحظنا أن الوسادة الثانية كان بينها وبين الرأس فراغ. أحدنا رفع جزءاً منه، وأسنده للأمام، ورأينا التراب الجاف غير المرئى واللاذع مكدس فى الأنف، عندئذ رأينا شعراً طويلاً مضفراً.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق