لا شك أن المسلم يستعيد نفسه على نحو جديد فى أثناء مناسك الحج وبعد أدائها؛ ففيها يعاهد ربه تعالى على الصفاء والوفاء ومزيد القرب منه تعالى وصدق التعرف عليه مع يقين جازم من كونه تعالى واهب الخير والنعمة والكمال للإنسان فى الظاهر وفى الباطن.
إن المسلم يجدد فى مختلف مناسك الحج عهده مع ربه، فحينما يستلم الحجر الأسود فى طوافه بالكعبة الشريفة يجدد العهد الأول الذى أخذه الله تعالى على بنى آدم، وهو عهد الميثاق واعتراف أفراد البشرية بالربوبية لله تعالي، مرددًا فى هذه الأثناء الدعاء المأثور: «بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم»، كما يجدد التذكر بعداوة الشيطان ويظهر مخالفته فى رمى الجمرات حيث يُكبّر الحاج مع كل حصاة يرميها «الله أكبر»، اقتداء بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخليل إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.كذلك يجدد الحاج عهده بالسنة النبوية المطهرة ومكارم الأخلاق بزيارة النبى صلى الله عليه وسلم ومعايشة أحواله الشريفة فى وطنه وبيته؛ فالقيم الأخلاقية لا تؤخذ مجردة من الأوراق والمداد، بل من معايشة المثل الحيِّ، ومعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم حى فى قبره حياة برزخية مخصوصة، وجسده الشريف محفوظ، يأنس بربه، متعبدًا فى قبره، متصلًا بأمته، تعرض عليه أعمالهم، ويرد عليهم السلام، ويستغفر لهم، كما فى قوله تعالي: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)[النساء: 64].
ويستشعر المسلم فى أثناء هذه المناسك نعمة الأمن ويتأكد من أهمية الاستقرار باعتبارهما عنصرين مباشرين فى تحقيق مسيرة المجتمعات نحو التنمية والحضارة والعمران؛ فهو يعيش مع الناس فى شهر حرام، وفى بلد حرام، ينبذ فيه الخصام والتشاحن والفجور، وتحقن فيه الدماء وتحصن الأعراض والأموال، ويلقى السلاح، وفى ذلك يقول الله تعالي: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة: 125]، وتعظيمًا لما له من قدسية؛ لأن مجرد إرادة فعل السوء فيه يترتب عليه وعيد شديد ورد فى قولِه تعالي:(وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
ثم إن المسلم يقوِّم تدينه ويؤكد التزامه بشعائر الشرع الشريف وأحكامه وآدابه بطريقة صحيحة؛ لأنه يرتقى فى أفكاره وسلوكياته عندما يعايش مناسك الحج والتى تبث فيه مبادئ التدين الصحيح وسماته التى كما تتضمن إقامة العبادات، وتهذيب الأخلاق والسلوك، وتصحيح المعاملات، وتحقيق العدل الاستقرار، تتضمن أيضًا معانى إشاعة السلام والتعايش والترابط والوحدة مع الغير برباط المحبة وحبل التراحم، وهو أقوى الوشائج وأدومها، وهو الضمانة الحقيقية لبقاء الأوطان واستقرارها وتماسك أفرادها كأنهم جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر.وبهذه المعانى تنعكس عمليًّا آثار الحج ومنافعه الروحية والتربوية على نفس المسلم وتجديد حياته بترسيخ مظاهر الطهر والسماحة ومبادئ السعادة؛ فإذا كان الحاج قد التزم بها وفعل هذه الشعائر والقربات المالية والبدنية والروحية والقلبية فى أثناء الحج فَحَرِيٌّ به أن يراعى ذلك بعد الحج بل فى سائر عمره؛ اغتناما لذلك حتى يلقى الله تعالى وهو عنه راضٍ.بالإضافة إلى الانطلاق مما اكتسبه من الحج وفى أيامه ورحلته المباركة فيجعله بداية جديدة لتحول إيجابى فى حياته وتجديد شخصيته، يعكس من خلالها الرحمة والسكينة وحب الخير والعمران ومودة الآخرين وعدم الاعتداء عليهم سواء بالقول أو بالفعل مع المداومة على أداء الحقوق والحرص على صدق اليقين والتدين الصحيح؛ فالحج يهدم ما قبله شأنه شأن الإسلام، حتى يعود الحاج إنسانًا جديدًا ذا صحيفة بيضاء نقية كأول قدومه لهذه الحياة الدنيا، التماسًا لبشارته صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه»(متفقٌ عليه)
لمزيد من مقالات د. شوقى علام مفتى الجمهورية رابط دائم: