كانتْ شَمْسُ 30 يونيو 2013 على موعدٍ مع يومٍ منْ أيام الشعوب، أرسلت أشعتها بردًا وسلامًا على المحتشدين أمامَ وزارة الثقافة بحى الزمالك، وكان صوت الشيخ الفنان إمام عيسى يسرى بين القلوب يدثرها بـ (طَرْحَةٍ) نسجها وطن قديم (مصر يا أمَّه يا بهيةْ يا أمو طرحة وجلابية)، ومن عُمق الصوتْ تَهِلُ الكاتبة المصرية الصافية (فتحية العسال)، تسير حاملة سنوات عمرها (نبوت) نمَّاهُ عشق الوطن والحرية، تُنادى على كاتب هذه السطور (مش تيجى تسندنى علشان نروح نجيب حبيبتك بهية يا وَلَه)، يتحرك الحشدُ يضم بين صفوفه عددًا كبيرًا من نجوم الرأى والثقافة والفنون والإعلام، لكن عددهم تدريجيًا يذوب فى محيط يتسع كلما اقترب الحراك من شارع 26 يوليو، يهدرُ الهِتاف (عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية)، يرتد صداه من شرفاتٍ الأبنية المطلة على الشارع، بينما تخرجُ عجوزٌ من شرفتها تتكئُ على حاملٍ معدنى تُمسكهُ بيديها وفى يُمناها علم صغير تُحرِكه مُتَحَديةً وَهنَ السن والمرض ووهم (تمكين الإخوان من حكم مصر)، تتلاقى عينانا فأشير إليها بعلامة النصر تَبتَسمْ وتُتابع بهِمة تحريك العلم المصرى مُرَدِدَةً هتاف الحشود (بلادى بلادى لكى حبى وفؤادي)، وفى هذه الأثناء يندفع من أحد شوارع الزمالك الصغيرة، بواب صعيدى الهيئة كأنما هب لتلبية صرخةٍ استنجادٍ انطلقت من دوار بلدته العتيق، يقطع الشارع الرئيسى، بينما تخرج من خلفه زوجته تُلَملِم طرحتها وتناديه، يُجيبها وهو فى منتصف الشارع (عليَّا الطلاق ما جاى خشى إلبسى وحصليني) ويَرفع علم مصر وصوته يُرَدِدْ (يسقط يسقط حكم المُرشد).
تَجَلت شمس 30 يونيو 2013 على أمَّةٍ تأبى أن تموت، فكان المشْهَدُ أكثر إدهاشًا لكُلِ من خطط لدعوة، أو أدار وعَيَ الاحتشاد، وكان التجلى الشعبى أكثر إرباكًا لكل من خطط لتمكين طويل، ولكل من استهدفَ إعمال أدوات الفوضى الخلاقة فى مصر، ولكلِ من اتخذ (الربيع العربي) منصة للقفز على خريطة (عالمٍ جديد) تفرض إدارته على مصر والمنطقة العربية (أنظِمَةً وحدودًا وأحلافًا وعداوات)، وطَرَحَ تَجلى الشعب على مشهد الواقع تساؤلا، كيف لأدواتٍ الفوضى أنْ تتفاعل مع شعبٍ متوحدٍ حول وطنه؟، يسير فيه المسلم والمسيحى والغنى والفقير والصغير والكبير واليسارى واليمينى وغيرهم من تنوعات التوجهات والأفكار والمذاهب، جميعهم يسيرون جنبًا إلى جنب يهتفون من فِطرةْ أصيلة (تحيا مصر.. مصر مصرية)، كل هتافهم محوره مصريتهم الخالية من أى توجه أو غرض أو غاية، تجلى الشعب فطْرَةً وطنية قادرة على أن تُخرِجَ مشهد الثورة القادرة. توهجت شمس 30 يونيو 2013 فصهرت كل ألوان الوجوه، ليبقى المصرى خالصًا، فى مواجهة أصحاب المآرِبْ الأُخَرْ، كثيرًا ما كان يُرَدِدُ قادة التنظيم الإخوان فى وعى قواعدهم حديث على ضعفه يقول (ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل)، وبعيدًا عن قدرة الإخوان الفريدة فى لى أعناق النصوص، إلا أن تجلى إيمان عامة المصريين بوطنهم ظهيرة 30 يونيو، كان قادرًا على فرز ما كان لله وللوطن وما كان للتنظيم فوصل الأول وقطع الثاني، عبر نفير وطنى عام كان مُطْلِقهُ ومُلَبيه هو عوام أهل المحروسة.
سطعتْ شمس صاحب السيادة بإيمانٍ قديم، ويقين تام، نعم كان فى قلب الحِراك نجوم الثقافة والإبداع والسياسة والرياضة وغيرها من ألوان الفعل، لكنْ الميزان التنظيمى يضع للنُخب ثِقلها فى خُططه، وهو ثقَلٌ يُمكن موازاته بتحريك أذرع التنظيم الموازية له وكذا الحلفاء والداعمون وأصحاب المصالح، لكنَ التنظيم الإخوانى ومن قبله إدارةٌ عالمية تسعى لإعادة رسم خريطة منطقتنا جميعهم لم يضعوا فى حساباتهم وزًنا لصباحٍ شَمسُه تسطع بقرارٍ من أصحاب السيادة الخالصين بغير غرض.
حين توارت شمس 30 يونيو قبل ست سنوات، كان المتربصون بهذا الوطن وجِواره، قد أعادوا وزن مكونات المَشْهَدْ، وعلى رأسها قدراتُ صاحب السيادة، الذى لم تقهره سنوات طوال فسدت وأفسدت، ولم تُذهِبْ عوامل التعرية معالم إيمانه بالوطن، ولم تكسر بادرات الحلم فى روحه كل وطأة الأوجاع المتتابعة، صار من يومها عامةُ أهلِ مصر هم هدفُ كل خِطط الاستهداف، ووثائق التنظيم الإخوانى فاضحة لحجم الاستهداف، فضلًا عن تربص أشمل تعتملُ أدواته عبر خطط أُمَمية لا تخفى عن أعين المُتابعين، وبات فرضًا على كل مُفَوَضٍ بالإدارة أن يُعيد النظر فى حجم الطاقة الهائلة التى انبعثت من تجلى إيمان العامة بوطنهم قبل ست سنوات، بِما يُتيح للوطن حُسن استثمار هذه الطاقة وتوجيهها صوب مصر المنشودة، فما صنعه العوام بتفعيل إيمانهم ثورة تحرير قادر على أن يَمُدَ الوطن بكل طاقات ثورات البناء والتطوير شريطة أن يكون لكلِ نفيرٍ عقيدته الباعثة وخُطَّتَهُ الهادية ودليل تقويمه الموضوعي، وما أحوج واقعنا لكل مَدَدٍ منبعه حضرةٌ وطنية يتجلى فيها إيمان العوام.
لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى رابط دائم: