ندمٌ شديدٌ يشعر به المرء يوم القيامة، إمَّا لأنه عَمِلَ أعمالًا ما كان له أن يعملها، أو لأنه كان يود أن يعملَ أعمالًا؛ فاتَه أن يعملَها، وهو ندم يلازمه سواء في برزخه بالقبر، أو في يوم الحساب، أو حتى بعد نعيمه الأبدي، أو في عذابه السرمدي.
عبَّرت عن ذلك حقيقة قرآنية نقلت المشهد عندما يؤٌتى يوم القيامة بجهنم: "وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ"، فيكون رد الفعل البشري: "يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23)"، ونادمًا: "يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)". (الفجر)، واصفًا حياته بعد الممات بأنها "حَيَاتِي"، مستخدمًا التعبير: "قَدَّمْتُ"، ومتحسرًا: "يَا لَيْتَنِي".
واعتبر مجاهد قوله "حَيَاتِي": "الآخرة"، وعقَب قتادة: "هُناكُم، والله، الحياة الطويلة"، وقال الطبري: "أخبر، تعالى، عن تندّم ابن آدم يوم القيامة، على تفريطه في صَّالِحات الأعمال في الدنيا، فيقول: "يا ليتني قدمت لحياتي في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي هذه، التي لا موت بعدها، ما ينجيني من غضب الله، ويوجب رضوانه".
وفي "يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ"، قال ابن كثير: "أي: عمله، وما كان أسلفه"، مضيفا: وقوله: "وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ"، أي: وكيف تنفعه الذكرى؟"، بينما ورد في "التفسير الميسر": "يقول: يا ليتني قدَّمتُ في الدنيا من الأعمال ما ينفعني لحياتي في الآخرة".
هذا الندم "الأخروي"، قد يسبقه ندم في الدنيا، وقد تساءلت دراسة بريطانية: "هل أفضلُ أن تندم على ما فعلتَ أم ما لم تفعل؟"، فأفاد 65 في المئة من المبحوثين، بأن الفرص الضائعة، وعدم الإقدام على شيء؛ يؤديان إلى الندم، أكثر من الفشل في عمل تم القيام به.
ويوم القيامة لن يكون أحدُّ أشدَّ ندمًا من الكافرين، لا سيما بعد مطالعتهم هول ما ينتظرهم في النار؛ إذ يندمون على تضييعهم فرص الطاعة في الدنيا؛ لقوله تعالى: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ". (الأحزاب 66)؛ ومن هنا جاء التحذير الإلهي من: "أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ". (الزمر:55).
إنها حسرة كشف عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا يَدخلُ الجنةَ أحدٌ إلَّا أُرِيَ مَقعدَهُ من النارِ: لوْ أساءَ لِيزدادَ شُكرًا، ولا يَدخلُ النارَ أحدٌ إلَّا أُرِيَ مَقعدَهُ من الجنةِ لوْ أحسَنَ؛ لِيكونَ عليه حسرةً". ("صحيح الجامع").
ومن هنا جاء ندم الصالحين في الدنيا على فوات الطاعة، إذ رُوي أن حاتم الأصم، فاتته صلاة العصر في جماعة بالمسجد، فصلاها في البيت، ثم جعل يبكي؛ برغم أنها فاتته.. ساعة الاحتضار! ("إحياء علوم الدين").
فلله دَرُّ أقوام آثروا العمل لحياتهم الحقيقية في الآخرة، انطلاقًا من صلاح دنياهم الفانية، وأقبلوا على طاعة ربهم ليلًا ونهارًا، مبللين وجوههم بالدموع: توبةً واستغفارًا.
[email protected]لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد رابط دائم: