أنا أستاذ جامعى، وأتابع بريدك بانتظام، وقد حفلت حياتى بالمواقف والأحداث التى ترك بعضها أثرا سلبيا على شخصيتى، وتغلبت عليها بفضل الله، لكنى أتذكرها كلما وجدتها تتكرر أمامى مع آخرين، ورأيت من واجبى أن أكتب إليك بشأنها لكى يتعلم منها قراؤك المنتشرون فى كل مكان، والذين يحرصون على متابعتك، والتفاعل مع ردودك عليهم، فلقد نشأت فى أسرة كبيرة ومعروفة بالحى الذى نسكن فيه، وكان أبى يعمل فى وظيفة كبرى، وتفرغت أمى لشئون البيت، وهى حاصلة على مؤهل عال مثل أبى، ولى ثلاثة أشقاء «ولدان وبنت» وأنا أصغرهم، ولم أدرك فى طفولتى الجريمة التى ترتكبها أمى فى حقى، ويسكت عنها أبى، ولا يعلق عليها أشقائى، بل إن أختى كانت تشجعهم عليها، وهى أنهم أجبرونى على ارتداء الفساتين مثل البنات، وتفننوا فى اختيار الملابس المطرزة التى تستهوى الفتيات، ونادونى باسم دلع بناتى، مع أن اسمى لا يوحى أبدا بذلك، ولك أن تتخيل حالى والبنات يتجمعن حولى، ويلعبن معى وكأننى منهن، وشيئا فشيئا، عرفت السر اللعين وراء صنيع أمى معى، وهو أننى أتمتع بجمال أخّاذ يفوق جمال البنات، وخوفا من الحسد، أو أن أجلس مع الأولاد، رأوا أن يبعدونى عنهم، ولم أسلم من تعليقات أقرانى، ومن يكبرونى بعدة سنوات، فلقد تركت نظرتهم لى أثرا داميا فى قلبى، ووجدتنى أبتعد عنهم، وأتحاشى لقاءهم، ولما كبرت والتحقت بالمدرسة، وكانت الفصول الدراسية مشتركة، كان المدرسون يجلسوننى بجوار صفوف البنات، ويندهشون من ملابسى، ويتهامسون أحيانا كلما مررت أمامهم، وحدّثت أبى وأمى فى أمرى، فلم يعيرا كلامى أى اهتمام، وقالا لى «كده لبسك حلو، واحنا خايفين عليك من الحسد»، فكتمت أحزانى فى نفسى، وانشغلت بالمذاكرة، وتفوقت على الجميع، ونلت المركز الأول فى الشهادة الابتدائية، وأخذنى أبى وأمى وشقيقى الأكبر لشراء ملابس للسنة الدراسية الجديدة بالمرحلة الإعدادية، وفى المحل تمردت عليهم، وأصررت على شراء ملابس الأولاد، فأنا ولد ولست بنتا، وهددتهم بأننى لن أذهب إلى المدرسة، ولن أخرج من المنزل فى ملابس البنات بعد اليوم، فحاولوا باستماتة أن يقنعونى برأيهم، لكنهم فشلوا، واشتروا لى ملابس «رجالى»، وفرحت جدا بأننى لأول مرة سأبدو أمام الآخرين «رجلا»، لكن شيئا ما انكسر بداخلى، وجعلنى أستمر فى انطوائى، وزاد من ألمى أنهم فى المنزل ظلوا ينادوننى باسم الدلع «البناتى»، وحاولت ألا يؤثر ذلك على مستواى الدراسى، وواصلت اجتهادى فأحرزت المركز الأول فى كل السنوات الدراسية، حتى الثانوية العامة، واخترت كلية الهندسة، ولم أواجه أى متاعب فيها إلا فى الامتحانات الشفوية، بسبب عدم قدرتى على المواجهة والكلام بعد أن تغلغلت الانطوائية داخلى، ولم يكن لى أى أصدقاء، ولم أجد ميلا فى نفسى لأية شلة، وهذا هو السبب فى حالة القلق والخوف التى انتابتنى كلما تعرضت لمواجهة من أى نوع، حتى لو فى الامتحان، وتحديت نفسى فى أن أحافظ على ترتيبى بين الأوائل، خصوصا أننى أحصل على الدرجات النهائية فى الامتحانات النظرية، وبالفعل استجمعت قواى، وركزت فى الامتحانات الشفوية والعملية، وتخلصت ـ إلى حد كبير ـ من التأثيرات السلبية لـ «فساتين البنات»، وفور تخرجى فى كليتى عملت بها معيدا، وأتيحت لى فرصة السفر إلى الخارج للحصول على الماجستير من إحدى الجامعات الأجنبية، ويبدو أن عقدة «الجمال» التى كانت السبب فى إجبارهم لى على ارتداء الفساتين، كان من الممكن أن تؤذينى بشكل آخر، فلقد ركبت ذات يوم سيارة أجرة، وأنا أنتقل من مدينة إلى أخرى فى البلد الأوروبى الذى أدرس به، فإذ بالسائق ينظر إلىّ بطريقة جعلت الخوف يتسرب إلى نفسى منه، وانتابتنى الهواجس من أنه قد يحاول الاعتداء علىّ، فأعطيته أجرته، ونزلت من السيارة تجنبا لأى أذى، وتذكرت كل المآسى التى تعرضت لها فى صغرى، وتوجهت إلى الله داعيا أن يزيح عنى هذا العذاب النفسى الأليم.
وفكرت فى الزواج والاستقرار، وتوسمت خيرا فى زميلة لى من عائلة كبرى، فارتبطت بها، وأنجبت منها ولدين وبنتا، وبصراحة شديدة، فإننى وجدتها عنيدة ومتصلبة الرأى، ولم أشأ أن أدخل فى صدام معها، فأمضيت حياتى معها بالطول والعرض، وتخرج أبناؤنا فى كلياتهم وتزوّجوا، وصارت لهم بيوت مستقلة، وأسر صغيرة ناجحة، وبعد أن خلا البيت علينا، أذاقتنى العذاب بعينه، فهى كثيرة الكلام، وتصيب من تتعامل معه بالعصبية، وتحملت ما لا يطيقه بشر من تسلطها، ولم يكن ممكنا أن تستمر حياتى بهذا الشكل القاتل، فآثرت البعد عنها، وانتقلت إلى شقة أخرى، وخيرتها بين الانفصال أو البقاء على ذمتى، ففضلت أن تظل علاقتنا كما هى، وأن نتواصل معا بالهاتف، وها نحن الآن ومنذ عشر سنوات يعيش كل منا بمفرده، وقد ألتقى معها مرة كل أسبوع كصديقين من باب الاطمئنان عليها، وأؤدى مسئولياتى تجاهها كاملة، وكل ما فى الأمر أننى تفاديت العصبية التى تسببها لى إذا أقمنا فى بيت واحد!
إننى أراعى الله فى كل تصرفاتى، وتمضى حياتى فى هدوء، وقد أديت رسالتى تجاه أبنائى على أكمل وجه، ولم أقع فى الأخطاء التى ارتكبها أهلى معى فى صغرى، لكن حالة الإنطواء القديمة مازالت تلازمنى، فأحيا وحيدا بلا أهل ولا أصدقاء، وكل هذا بسبب «الجريمة النائمة» التى ارتكبها أهلى معى منذ ولادتى بمعاملتى كبنت بسبب «الجمال والحسد»، وأرجو أن يعى الآباء والأمهات الذين ينتهجون هذا النهج أنهم يرتكبون جرما بشعا فى حق أبنائهم، قد يجعلهم أسرى الجنس الآخر من الناحية النفسية على الأقل، كلما التقوا معارفهم، وإخوتهم، الذين لا ينسون أبدا اسم «الدلع البناتى».. إنه درس مهم يجب الانتباه إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
إنها حقا جريمة بكل المقاييس، أن تعامل الأسرة ابنها الولد باعتباره بنتا، وتصبغ عليه كل المظاهر التى توحى للآخرين بأنه أنثى مثل إطلاق اسم «بنت» عليه ولو من باب الدلع، فمهما كبر فى السن، وتغيرت الأوضاع، يظل هذا الاسم عالقا فى أذهان الآخرين، وحتى لو لم يواجهوه به، فإنهم يتهامسون فيما بينهم بأنه مشهور فى عائلته باسم «الدلع»، وليس الاسم الحقيقى، وهكذا تظل نظرتهم إليه قاصرة، وغير منصفة، وتتنافى مع وضعه وأسلوب تفكيره، ورفضه الداخلى للشخصية التى حاولوا إلصاقها به بدعاوى باطلة، كالحسد وخلافه.
وإنى أتساءل: ألا يدرك من ينتهجون هذا النهج مع أولادهم أنهم قد يتأثرون بهذه النظرة فعليا، ولا يتمردون عليها كما فعلت، فينخرطون فيها، وتصبح جزءا من شخصياتهم، فالحقيقة أن هناك رجالا يعانون هذه المشكلة، وليس الأهل بالضرورة هم السبب فيها، وهى تندرج فى إطار الصراعات النفسية التى يعانيها البعض، فى السرّ أو العلن، ولذلك فإن العلاج ضرورى، والمتابعة مهمّة، علما بأنها ظاهرة مختلفة عن الشذوذ شكلاً ومضموناً، لكنها قد تساهم فى تطوّره أو تشكّل مظهراً معيّناً من مظاهره. ويبقى الأهمّ هو الوعى الكافى، والإدراك والتربية السليمة منذ الصغر، لتفادى الانعكاسات السلبيّة لهذه الطريقة فى التربية فيما بعد.
إن التربية السليمة لها تأثير كبير، فهى تصقل شخصيّة الإنسان منذ الطفولة، وتعلّمه تفريق الخطأ عن الصواب وتشجّعه على احترام القواعد والتقاليد، وتنهيه عن خرق الأعراف، وتدمجه بسلاسة فى المجتمع، ذلك أنّ الصورة التى يكتسبها فى صغره قد تظل ملازمة له، وربما ترجع ظاهرة إرتداء ملابس الجنس الآخر، إلى أمرين بديهيين: أوّلهما ضعف أو انعدام علاقة الولد مع الأب من جهة، وتعلّق الأم المفرط عاطفياً بالولد، مما يدفعها إلى ملء فراغ عاطفى لديها، فيكتسب الولد بمرور الوقت التصرفات الأنثوية ويكبر معها، وهى لا تعى خطورة صنيعها، ومن هنا أقول: إن تربية الأولاد بطريقة سليمة ومتوازنة ومدروسة أمر جوهرى، وان الإفراط فى الدلع، وتشجيع التصرفات غير الذكورية للصبيّ والافتخار بعادات مكتسبة من الأم إلى ولدها، هى خطوات غير مقبولة تؤدّى إلى ضياع الولد نفسياً، فبعض الملابس مقصورة على النساء، مثل الفساتين، ولا يعقل أن تجبر الأم طفلها على ارتدائها كما تفعل مع أخته تحت أية ذريعة من الذرائع، وتبقى مرحلة المراهقة من أدقّ المراحل التى تتطلّب مرافقة واعية وتنشئة اجتماعية وعائلية سليمة، وقرارات حاسمة، ولا مجال فيها للتهاون أو التغاضى عن «الخطأ الفاضح» ـ إن صح التعبير ـ مثل إجبار الولد على ارتداء ملابس البنات لكى لا يتحوّل لاحقاً إلى مشكلة نفسية لا تحمد عقباها.
أيضا فإن تمييز كل جنس عن الآخر أمر تقره الشريعة، فلا يجوز للرجال ارتداء ملابس خاصة بالنساء، وكذلك لا يجوز للنساء التشبه بالرجال، لأن فى هذا نوعاً من الاعتراض على الفطرة التى خلق الله كل جنس عليها، فقال تعالى: «وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا» (النساء 23)، ومن يفعل ذلك فهو آثم شرعا، فلقد روى عن النبى ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه قال: لعن الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ، وَقَالَ عن هؤلاء: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ»، فإذا لم تنفع معهم وسائل النصح والإرشاد والعلاج النفسى والطبى عند الضرورة، فإنهم يتحولون إلى جرثومة تضر كل من حولها من أفراد المجتمع، لهذا ينبغى عزلهم، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ترتكب الأم هذه الجريمة، وتجبر ابنها على ارتداء ملابس نسائية بدعوى الخوف من الحسد وخلافه؟!
لقد أحسنت صنعا بتمردك على والديك، ورفضك ارتداء ملابس البنات فى صغرك، أما من ابتلى بهذه الآفة فعليه أن يقوى فى نفسه الوعى الديني، وأن يبتعد عن رفاق السوء أو مشاهدة ما يدعوه إلى هذا الفعل غير المحرم، وأن يستعين بالله سبحانه وتعالى، فهو خير معين، وإذا صدق العبد فى دعائه والاستعانة به والالتجاء إليه، صَدَقَه الله بإجابة دعائه وإزالة شكواه والأخذ بالأسباب والحرص والمجاهدة، حتى يتوصل إلى الشفاء التام من خلال مخالطة الأتقياء وزيارة الأطباء المتخصصين، لأن هذا نوع من المرض الذى يرجى العلاج منه، حيث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام»، فالذهاب إلى الأطباء باعتبارهم أهل الاختصاص واجب شرعاً، لأن البديل فى استمرار التشبه بالجنس الآخر هو اللعن والطرد، والإبعاد عن رحمة الله.
فيا أيها الآباء والأبناء: ربوا أولادكم بأسلوب صحيح، وازرعوا فيهم الصفات التى تكسبهم القدرة على الثبات فى هذا الزمان، ومنها الثقة بالنفس، والعزيمة والإصرار على التخلص من العادات المرفوضة، وكونوا قدوة لهم فى كل شىء، واجعلوا لهم بيئة صالحة يعيشون فيها، ويتعودون على الصفات الحسنة والإيجابية عموماً، واستثمروا سنوات الطفولة الأولى فى تعليمهم المهارات اللازمة لبناء شخصياتهم، فكلما كانت الطفولة زاخرة بكل ما هو مميز ومليئة بالحب والحنان والمتابعة، وتحت إشراف واع من الأهل، صار الطفل صاحب شخصية قيادية متوازنة يتأثر ويؤثر فى الآخرين بإيجابية، وباختصار فإن ما نزرعه فيه اليوم نحصده غدا.
وحسنا أنك تغلبت على مشكلاتك، ونجحت فى حياتك العملية، ومازلت ملء السمع والبصر فى جامعتك، ويبقى أن تعيد التوازن إلى علاقتك بزوجتك التى لم تنكر عليها خلقا ولا دينا، فأنتما الآن فى سن الجلال والاحترام، فعليكما معا السعى إلى أن يكسو الهدوء حياتكما، وأن تعود المياه إلى مجاريها بينكما بقليل من الحكمة، والنظرة الصحيحة إلى الأمور، والله المستعان.
رابط دائم: