أنا واحد من أشد المعجبين بردودك على رسائل قرائك والتى تأتى دائما بحلول تريح أعصابهم وتهدئ روعاتهم، وتبعث فى نفوسهم الأمل وكلى رجاء فى أن أجد حلا لمشكلتى التى أعرضها عليك حتى يرتاح عقلى وقلبى، وأرجو أن أكون قد أحسنت التعبير عما يضيق به صدرى، إذ تمر على الإنسان أحيانا أحداث حافلة بالسعادة، وقد تصادفه فى أحيان أخرى مواقف مملوءة بالحزن، وربما يمر وقت بلا أحزان فيظن أن الزمان قد طواها إلى الأبد، فإذا بها تظهر فجأة أمامه فتقض مضجعه، ولا يعرف النوم طريقا إليه.. إنها الحياة التى لا نملك إزاءها حيلة، ومهما تكن الأيام عظيمة أو مؤلمة فلابد أن تنزل عليها ستائر النسيان، ولا يبقى منها سوى ذكرى حلوة أو صورة جميلة تظل محفورة فى الوجدان وعالقة بالأذهان.
لقد بدأت قصتى منذ أكثر من ثلاثين عاما، فأنا أكبر إخوتى وهم أربعة أولاد وبنت، وكنا نعيش فى حى شعبى حياة أقل من المتوسطة فى رضاء تام، وكان أبى يعمل موظفا بالقطاع العام، وأمى ربة بيت، وتحملنا صعوبة المعيشة بأقل القليل، وحصلنا على مؤهلات متوسطة، وشق كل واحد طريقه فى الحياة وتزوج بمن رشحها له أهله وارتاح إليها وكوّن أسرة مستقلة، ثم تفرقت بنا السبل بعد رحيل أبينا، ولم نعد نلتقى كما كنا من قبل، ولم يكن لى أصدقاء سوى صديق واحد منذ أيام الطفولة، وكانت أخته صديقة لأختى، وتعرفت فيما بعد على زوجها، وصرنا جميعا أصدقاء وبعدها افترقنا سبع سنوات تقريبا بسبب مشاغل الحياة، ولما استقرت أحوالنا عادت علاقاتنا أقوى مما كانت عليه، ووجدت أن ابنة صديقى الطفلة الجميلة قد وصلت إلى السنة الأولى بالجامعة، وما أن وقعت عيناى عليها حتى دق قلبى وهتف لسانى: «سبحان من خلق هذا الجمال فأحسن تصويره» وفجأة انتابتنى حالة انقباض عندما لاحظت فى عينيها ابتسامة حزينة تخفى وراءها دموعا كثيرة، وبمرور الأيام وجدتها لا ترتدى إلا الملابس ذات اللون الأسمر، وذات مرة مازحتها عن سر ابتسامتها الحزينة واللون الأسود الذى لا تبدله أبدا؟، فأجابتنى بأنها تعشق هذا اللون..أما الابتسامة فعلقت عليها بقولها: «هو فيه إيه فى الدنيا يخلى الواحد سعيد»، فغيرت مسار الحديث فى محاولة للتسرية عنها بالحديث عن حياتها الدراسية والاجتماعية، وهكذا انشغلت بها، وأخذت حيّزا كبيرا من تفكيرى، ولاحظت هى نظراتى واهتمامى الزائد بها، فبادلتنى النظرات والأحاسيس نفسها، ثم تعددت لقاءاتنا فى وجود أمها وأختها، فكان لا يمر يوم أو اثنان إلا ونتقابل ويدور بيننا حديث طويل، وتعلق كلانا بالأخر، وقد لاحظت أمها هذه العلاقة، وهذا الإعجاب، فقالت لى: إنها مازالت صغيرة وأمامها مستقبل طويل، وأننى بهذه العلاقة قد جعلتها دائما مشغولة وفى حالة سرحان مستمرة مما يعطلها عن دروسها ومذاكرتها وأن علىّ أن أعتبرها صديقة، وأن أطوى هذه العلاقة التى لن يقبلها المجتمع والناس وزوجتى وأولادى، فحاولت أن أشرح لها أننى غير سعيد فى حياتى لأن كل ما يشغل زوجتى فى الحياة الأولاد وإعداد الطعام، وتناستنى تماما، وأكدت لها أن قلبى مال نحو ابنتها «ذات الرداء الأسمر» لكنها أصرت على موقفها وتزامن ذلك مع ملاحظة زوجتى هذا الاهتمام، فغارت وكثرت المشكلات بينى وبينها، وقد حاولت جاهدة بأقصى الطرق أن تبعدنى عنهم، فقلت لها إننى أعرفهم منذ سنوات بعيدة لكن ثورتها لم تهدأ، وقد لاحظت تغيرا كبيرا على فتاتى إذ تعمدت الإقلال من مقابلاتنا، ولم يعد الحديث بيننا كما كان، ولما فاتحتها فى ذلك قالت إن علاقتى بها من الممكن أن تقضى على الأخضر واليابس، وأن الحب بيننا مستحيل، ورأيت الدموع فى عينيها وهى تحاول أن تحبسها، ويقول لسانها شيئا بينما تنبىء عيناها وقلبها بشىء آخر، أما أنا فلا أقدر على الابتعاد عنها لأننى أشعر بالسعادة فى حضورها، فكنت أرى نفسينا تلتقيان معا، فى حالة الحزن التى جسدها جبران خليل جبران فى قوله: «إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس، مثلما يستأنس الغريب بالغريب فى أرض بعيدة عن وطنهما، فالقلوب التى تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرِّقها بهجة الأفراح وبهرجتها، فرابطة الحزن أقوى فى النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذى تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلًا وخالدًا. «فماذا نفعل لكى نحافظ على حبنا الطاهر والجميل؟..إننى أعلم تماما أنه ليس بيد الإنسان أن يكون سعيدا أو حزينا لأن هذا قدره ولكن باستطاعته أن يتغلب على كل الصعاب التى تعترضه وأن يواجه الحياة بقلب صاف مملوء بالأمل والإرادة والإصرار وبذلك يكون على موعد مع الأقدار الطيبة والسعيدة فنحن جميعا مع القضاء والقدر حين نٌحب وحين نُولد وحين نموت وأكتب هذه الأبيات إلى فتاتى التى لن أنساها ما حييت:
يا من هواه أعزه وأذلنـــى
كيف السبيل إلى وصالـــــك دلنى
واصلتنى حتى ملكت حشاشتي
ورجعت من بعد الوصال هجرتني
الهجر من بعد الوصال قطيعة
ياليت من قبل الوصال تركتني
فما هو السبيل إلى الخلاص من العذاب الذى أعانيه، وكيف يهنأ بالى وحبيبتى بعيدة عنى، وأملى فى الزواج بها صار كالسراب؟.
< ولكاتب هذه الرسالة أقول:
إن علاقتك بابنة صديقك، لا يمكن تسميتها حبا، فلقد صوّر لك خيالك أنها تبادلك المشاعر التى تكنها لها لمجرد حديثها معك بأريحية عن جوانب حياتها، فالواضح أنها فعلت ذلك بإيعاز من أمها طمعا فى أن تغدق عليها اهتمامك، ورعايتك وهداياك، بل إن والدها يدرك هدفك الأساسى من ترددك الدائم عليهم، ولا أحد يريدك زوجا لابنتهم ولا حتى هى نفسها ترغب فى ذلك، وسوف ينبذونك من حياتهم بمجرد استنفاد أغراضهم فيك، وهو تصرف أحمق لا يدركون فداحته، ولا الآثار النفسية المدمرة التى سوف تنعكس على ابنتهم بسببه، ولن تفيق من الوهم الذى يسيطر عليك باسم «الحب» إلا عندما تدرك أن ما سعيت إليه كان سرابا، ثم سرعان ما تكشفت الحقيقة.
إن الفارق بين عمرى الزوجين إذا زاد عن الحد المعقول، وليكن عشر سنوات مثلا، فإن المرأة تصاب غالبا بمرض «التجسّد»، وهو من أخطر الأمراض النفسية التى تصيب النساء لعدم إشباع احتياجاتهن العاطفية، وتتمثّل أعراضه فى الشعور بآلام وتنميل فى مختلف أجزاء الجسم دون وجود سبب عضوى واضح، وأيضا الإكتئاب النفسي، وقد تحدث مشكلات اجتماعية بينها هى وأهلها، خصوصاً إذا كان لهم دور فى إجبارها على الزواج من رجل متقدّم فى العمر، كما يمكن أن يكون الفارق الكبير عائقا أمام فهم مشاعر الطرف الأصغر سنا، فالأكبر يعتقد دائما أنه يملك الخبرة والحكمة، ومن ثم يبرر لنفسه إحكام السيطرة على الطرف الآخر، دون مراعاة قاعدة مهمة تؤكد أن فهم مشاعر الآخر عملية تتطلب ماهو أكثر من الخبرة والحكمة، وبالتالى عندما يكون فارق السن كبيرا، فإن فإن الزيجة تتعرض لـ «مأزق نفسى» يهددها بالفشل، فالزوج يريد من زوجته أن تعامله كشريك، وليس باعتباره أبيها مثلا، بينما هى لا تستطيع أن تجاريه الإحساس الذى يشعر به!
ولا تظهر الآثار السلبية للفجوة العمرية الكبيرة بينهما إلا على المدى الطويل، ويبدو الصدام فى مرحلة متقدمة أمرا منطقيا، ويعد جنون العظمة «الاضطراب العقلى» أمرا شائعا جدا بين الرجال كبار السن المتزوجين بشابات، حيث يعد الشك فى الزوجة والغيرة القاتلة عليها أحد أعراضه، كما أنهم يقدمون امتيازات غير معقولة أحيانا لإرضاء زوجاتهن الصغيرات، لكن المشكلة أنه لا أحد يستطيع أن يستمر فى إرضاء شريك حياته إلى الأبد، فالعلاقة الزوجية أخذ وعطاء، وقد تزداد الأمور صعوبة عندما يشعر الطرف الأصغر سنا أن ما يحصل عليه من امتيازات حق طبيعى وثمن للبقاء مع طرف فى ضعف عمره.. هذه الأمور تجعل انعدام «الأمن العاطفي» يتسلل إلى العلاقة الزوجية، ويؤدى إلى الفوضى داخل الأسرة التى تصبح أكثر ضررا فى حالة وجود أطفال.
وحتى لو سلّمت جدلا بأن هذه الفتاة كان فى نيتها الزواج منك، فإن مبعثها إلى ذلك هو شدة خوفها من الحياة، فهى تريد رجلاً يحميها ويعطيها الأمن المنشود، ويحل لها مشكلاتها، وييسر لها شئونها، ويوفر لها استقرارا ماديا كبيرا، فتقنع نفسها بأن فارق السن الكبير غير مهم، ولكنها بمرور الوقت تصطدم بصخرة الواقع، وتشعر بالاخفاق والفشل فى هذا الزواج غير المتكافئ، فالكفاءة تعنى أن يكون الزوجان متساويين أو متقاربين فى مستوياتهما الدينية والعلمية والخلقية والاجتماعية، وكذلك فى السن، فكلما كان هناك تقارب بين الزوجين فى السن والصفات العقلية والاجتماعية وغيرها، صارت الحياة الزوجية بينهما سعيدة، وأقرب إلى النجاح وحسن التفاهم، مما يؤدى إلى دوام الألفة والانسجام والود والتراحم، بل إن المرأة إذا زوّجت نفسها من غير كفء لها، فإنه يجوز شرعاً لأوليائها حق الاعتراض على الزيجة، وإذا واصلت إصرارها على الزواج، يصبح من حقهم أن يرفعوا الأمر إلى القضاء لفسخ هذا الزواج غير المتكافئ، وعلى القاضى أن يحكم لهم بذلك فى ضوء ما يراه من ملابسات، لأن هذه هى وظيفته الشرعية التى حددها الله تعالى له بقوله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (النساء 58).
وبصراحة شديدة فإن انجذابك إلى هذه الفتاة التى لم تكمل سن العشرين، لم يكن دافعه إهمال زوجتك لك واهتمامها بالأولاد على حسابك كما تدّعى، وإنما الدافع الحقيقى هو رغبتك فى أن تتحكم ببنت صغيرة بدافع اشباع غرورك وغرائزك، ولم تسأل نفسك: لو أن والد هذه الفتاة تقدم للزواج من ابنتك، هل توافق عليه؟.. بالطبع لا.. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تقيس موقفك من ابنته على الأساس نفسه؟!
عليك أن تعيد حساباتك، وأن تحسن إلى زوجتك «أم أولادك» التى لم تجد فيها عيبا سوى الذرائع المعتادة للرجال فى الأعمار المتقدمة، وأن تستعيد ما قدمته لك من مشاعر وحب، فلقد راعت الله فيك وفى بيتك، فلا يكون جزاؤها أن تبحث عن غيرها طلبا لملذات مؤقتة، وأرجو أن يستوعب الدرس كل من يفكر فى الإرتباط بفتاة صغيرة فى عمر بناته، بأنه حتما سوف يعانى اضطرابا فى التكيف الأسرى معها بعد أن تكتشف هى خطأ تفكيرها، ولا يستطيع هو أن يعيش حماس وتفكير الشباب.
إن العلاقات غير المتكافئة تقدم إشباعاً كاذباً للطرفين، فالزوجة الصغيرة هى الطرف الأضعف والأفقر، وترضى نفسها وترمم «نرجسيتها الجريحة» بهذه العلاقة، والزوج كبير السن هو الطرف الأغنى، ويحتاج إلى تكريس فكرته عن نفسه بأنه مرغوب، ولديه ما يغرى زوجته بالإنسياق وراءه، وهذا النهج من كلا الطرفين لا يستقيم بأى حال، ولذلك تنهار العلاقة الزوجية بعد أن يكون كلاهما قد خسر الكثير، والحل القاطع لما تعانيه هو أن تركز حياتك مع زوجتك وأبنائك فهم الأبقى لك، وأقول لأسرة هذه الفتاة: إياكم والمتاجرة بابنتكم، واللعب بالنار التى لا تحرق إلا من يمسك بها.
رابط دائم: