السياسة هى «فن الممكن» وينسب هذا التعبير إلى «أوتو فون بسمارك» المستشار البروسي الذى قام بتوحيد ألمانيا يحمل التعبير تأويلات عديدة، أكثرها تناقضًا أن الغاية نسبية عندما لا تكون ممكنة، وأن الوصول إلى بعض الهدف هو هدف فى حد ذاته، ففى هذا العصر الرأسمالى صعدت الشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات إلى قمة هرم القرار عالميًا دون أطر مساءلة، وصارت مبادئ السوق من حسابات الربح والخسارة، هى التى تحدد السياسة وتحجب المبادئ التى كنا إلى وقت قريب نعتبرها أساسية بالنسبة لأى مؤسسة عامة، وأهم هذه المبادئ، الأخلاقيات، وهى ليست الأخلاق بالمعنى الدينى أو الروحى فقط، وإن كانت تحويها وتبني عليها أحيانًا، وإنما هى المبادئ المنطقية التي تتجاوز الآنى والشخصى، وتؤسس لأنظمة عامة تميز الصحيح عن الخطأ، والفضيلة عن الرذيلة، والحق عن الباطل، والمؤسف هو التخلى عن «الميزان الأخلاقي» الذى حل محله، ميزان الربح والخسارة، وصار هو الميزان الأكثر رواجًا.
لقد أصبحت السياسة عبارة عن «بيزنس» كما أن التعامل في الشكل العام اليوم ليس أكثر من إدارة أعمال مرفقة ببعض من البلاغة والرطانة، وما صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى قمة الهرم السياسي في العالم إلا التمثيل الأمثل لضمور دور المعايير الأخلاقية، إذ أصبح عقد الصفقات الذي برع فيه ترامب قبل رئاسته الولايات المتحدة، هو الأساس في التعاملات السياسية داخل الدول أو بينها، مع ما يتطلبه ذلك من حسابات وتنازلات وتغييرات، بل وحتى تناقضات في سبيل الحصول على أكثر الممكن.
ولا يقتصر اضمحلال دور الأخلاقيات في الشأن العام وصعود عقلية السوق، على الأنظمة والمؤسسات المالية الكبرى التي نظرت إلى الأخلاقيات دومًا على أنها عائق يجب تجاوزه أو التحايل عليه، بل يتعداه ليشمل المؤسسات غير الربحية والمنظمات الإغاثية التي يفترض أن تكون أكثر تمسكًا بالإطار الأخلاقي لعملها الذى يشكّل في كثير من الأحيان مبرر وجودها، فالعديد من المنظمات الإغاثية دولية أو غربية أو شرقية وعالم ثالث على السواء، منغمس في فضائح أخلاقية تهدد أساس وجوده، كما رأينا في فضائح الاغتصابات التي مارسها جنود يعملون تحت راية الأمم المتحدة في عدد من الدول الأفريقية المنكوبة بصراعات أهلية أو إثنية، وكما تابعنا العديد من الفضائح المالية التي ارتكبتها جمعيات خيرية ذات تاريخ طويل فى العمل التطوعى امتد فى بعض الأحيان لعقود من الزمن مع تواطؤ العديد من العاملين فيها أو تجاهلهم لها.. فى هذا الجو المأزوم أصبح العنف عاريًا تمامًا فى بزوغه كأساس للتعامل، وتحولت الأخلاق إلى ورع ظاهري، وتزمت اجتماعى.
د. عماد اسماعيل
رابط دائم: