كنت في زيارة إلي مباني قرية القرنة بالأقصر التي وضع لبناتها الأولي الدكتور حسن فتحي مؤسس «عمارة الفقراء»، والتي أعلنت اليونسكو مبانيها غير مكتملة الأركان «محمية تراث عالمي» لعظمتها وبريق فكرتها،
فطلبت من أحد أهلنا هناك كوب ماء، وبعد أن شربته، سألته: من أين لك بهذا الماء الجيد؟ فأشار إلي الترعة القريبة، فقلت في نفسي ألا توجد تقنية رخيصة وبسيطة لإمداد مياه الشرب للملايين من أهلنا البسطاء، مياه للفقراء علي غرار عمارة الفقراء، فتوفر مياه الشرب النقية لملايين المصريين بالقري المنتشرة بطول نهر النيل والمجاري المائية العذبة الأخري؟، وسافرت بعدها إلي بولندا عام 1998 في منحة لدراسة الدكتوراة في مدينة بوذنان البولندية علي ضفاف نهر الفارتا، فوجدتهم هناك يُنقون مياه الشرب من خلال تقنية طبيعية، سبق أن استخدمها الفراعنة والعلماء العرب منذ آلاف السنين، وحديثاً تستخدمها أوروبا خاصة ألمانيا علي نطاق واسع لتوفير مياه شرب صحية وطبيعية بدون إضافة شبة أو أى كيماويات، ولا تنتج عنها ملوثات للبيئة، وهي تقنية «الترشيح الطبيعي»، فقررت أن أوجه مشروعاتي البحثية في ألمانيا لدراسة التقنية وإمكانيات تطبيقها في مصر، وكتبت عنها لأول مرة في الصحافة المصرية من ألمانيا بتاريخ 2 فبراير 2007 عن ملائمة البيئة حول نهر النيل لتطبيق التكنولوجيا في «بريد الأهرام» واختار لها الأستاذ أحمد البري عنوان «إنها بيئة نموذجية»، وبعد إجراء عدد من الأبحاث بالتعاون مع العلماء الألمان، وبدعم من الحكومة الألمانية تمكنت بعد عودتي إلي أرض الوطن من تنظيم ورشة عمل دولية حول التكنولوجيا بمقر عملي بجامعة قناة السويس، وبحضور بعض العلماء الألمان والمسئولين عن قطاع مياه الشرب في مصر، وقد نظمت جامعة قناة السويس بالتعاون مع جامعة هاواي الأمريكية وزميل من جامعة المنيا مؤتمرا حول التقنية في أكتوبر 2009 بمدينة الأقصر علي ضفاف نهر النيل بصعيد مصر، ثم توالت بعدها المؤتمرات وورش العمل الدولية والمحلية حول التقنية وبدعم من جهات متعددة. وبعد جهود مضنية منا وصد من جانب البعض، تمكنا في النهاية بالتعاون مع زملاء أجلاء من جامعة درسدن الألمانية وبدعم من مشروعات الشراكة الألمانية المصرية من الحصول علي مشروع بحثي لتنفيذ بعض الوحدات التجريبية في مصر، ودراسة التحديات التي تواجه تطبيق التكنولوجيا علي نطاق واسع في مصر، وبعد النتائج المبهرة التي حصلنا عليها شرعت الشركة القابضة لمياه الشرب والشركات التابعة، بدعم مباشر منا، علي تنفيذ عدد من الوحدات في محافظات الصعيد (قنا، سوهاج، المنيا وبني سويف) وأخيرا في إحدي محطات القاهرة الكبري. والآن وبعد نشر عدد من الأبحاث في مجلات علمية مُحكمة وتقييم معهد جوته ومكتب التبادل العلمي الألمانيين للمشروع من خلال مشروع «الصحافة العلمية»، فإنني أحذر من أن الفشل في تلبية المتطلبات الفنية والعلمية لهذه التقنية الطبيعية البسيطة والفعّالة قد يؤدي إلي فقدان الفوائد الاقتصادية والبيئية لهذه التقنية الطبيعية التي كنا نبحث عنها منذ ما يقرب من عشرين عاماً، إنني مازلت أحلم بأن تستخدم بلادي هذه التقنية بأفضل طريقة ممكنة وفعّالة حتي تتمكن من توفير مياه الشرب النقية لملايين الأسر المصرية، وحماية نهر النيل العظيم.
د. كمال عودة غُديف
جامعة قناة السويس
رابط دائم: