الشىء الوحيد الذى يحسب لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» هو أنها عنونت تقريرها الأخير عن مصر بـ «هنا نفعل أشياء لا تصدق»، وهو تعبير يعبر تماما عما قامت به المنظمة، فإصدار التقرير فى حد ذاته، وما احتواه، والطريقة التى صيغ بها لا يمكن تصديق أنه يخرج عن مؤسسة تدعى أنها تعمل لحماية حقوق الإنسان، وأنها تقف إلى جوار الضحايا. التقرير كتب سياسيا، وتم تدعيمه بادعاءات تتعلق بالتعذيب فى مصر. والباحثون يعرفون جيدا الفرق بين أن تكتب ما تريد من وجهات نظر وأحكام، ثم تبحث لها عما يدعمها فإن لم تجده اختلقته، وبين أن تكون المعلومات المؤكدة، خاصة فى مجال حقوق الإنسان هى نقطة المنطلق والهدف الرئيسى، وليس لىّ عنق تلك المعلومات، فالغرض مرض كما يقولون. باختصار فإن التقرير، كما كل تقارير المنظمة عن مصر، يخلط بين السياسة والعمل الحقوقي. فثلث التقرير على الأقل عبارة عن ورقة سياسية لا تحتاج لأكثر من محرر لديه انحياز سياسي، وتصور نمطى سلبى عن الأوضاع فى مصر، ولا يريد سوى استهدافها. وفى الحقيقة فإن فكرة خلط السياسة والتوجهات المسبقة بالعمل الحقوقى فكرة معتمدة ورائجة لدى المؤسسات الحقوقية الدولى منها والمحلي. وهنا تذكرت على الفور تجربة أحد الباحثين المعروفين الذى تم تكليفه من قبل مركز شهير لدراسات حقوق الإنسان فى مصر بالإشراف على إجراء دراسة للمركز فى موضوع متخصص تماما، وعند الانتهاء من التقرير فوجئ بأحد الحقوقيين فى المركز، وقد أعد تقريرا آخر حمل وجهة نظره والمركز فى الموضوع فى محاولة لإدانة النظام، وأصر على إرفاقه بالتقرير الأساسى تماما، كما فعلت «هيومان رايتس» تحت ادعاء خلفية الموضوع، والإطار السياسى والقانونى لموضوع الدراسة.
«الخلطة» السياسية فى تقرير المنظمة لم تكن فقط استهدافا للرئيس السيسى كما أكد الرد الوافى من الهيئة العامة للاستعلامات، وإنما كان استهدافا لمصر الدولة. وهو الاستهداف المستمر والممنهج منذ تسعينيات القرن الماضي. ومن ثم تعرض تقرير المنظمة، أو ذكر بتقاريره السابقة ضد مصر. والهدف هو تأكيد رسالة أن سياسات النظام الحالى برئاسة الرئيس السيسى لا تختلف عن العهود السابقة التى ثار عليها الشعب المصري.
وتسعى المنظمة بخبث شديد لإقناع من يقرأ التقرير بأن ما جاء فيه حقيقة لا مراء فيها بالتذكير بممارسات جهاز أمن الدولة السابق. ولا يعنى ذلك أن استهداف مصر الآن بهذا التقرير هو مجرد عمل روتينى تقوم به المنظمة فى إطار توجهها العدائى الثابت تجاه مصر. فالحقيقة أن التقرير جاء أولا لإزعاج مصر وإحراجها قبل اجتماعات الأمم المتحدة، وثانيا لدعم الموقف الأمريكى بتخفيض وتجميد جزء من المعونة الأمريكية لمصر بدعوى وضع حقوق الإنسان فى مصر، وثالثا لإسباغ شرعية على مقولات ومزاعم «دكاكين» حقوق الإنسان فى مصر الموالية للجماعات الإرهابية. والدليل على سوء نية المنظمة فى إصدار التقرير فى هذا التوقيت تحديدا يمكن استخراجه من بين سطور تقرير المنظمة نفسه. فالتقرير يقول إنه أرسل خطابا للداخلية المصرية والنيابة العامة يستفسر منهما عما يدعيه من شكاوى التعذيب، ويطلب حصرا بها ونتائج التحقيق فيها منذ عام 2013، وبالطبع لم ينتظر الرد وكتب التقرير زاعما أن الجهتين لم تتعاونا معه. وهنا لابد من الأخذ فى الاعتبار الملاحظات التالية:
أولا: إن التقرير نفسه لم يشر إلى قيام المنظمة بمعاودة الاتصال بالجهتين طلبا للمعلومات التى يبحث عنها، وكان حريا بها أن تفعل لو أنها حقا تبحث عن الحقيقة، ولكن لأنها لا تسعى إليها فإن تواصلها مع الداخلية والنيابة العامة كان فقط من باب سد الذرائع، أو كما يقولون ذرا للرماد فى العيون، ومحاولة الظهور أمام المجتمع الدولى بأنها قامت بما ينبغى لها القيام به.
ثانيا: إن المنظمة تحاول أن تضع نفسها فى مقام لا ترقى إليه بأى حال من الأحوال، فطريقة تعاملها مع الداخلية والنيابة العامة توحى بأن المنظمة تتوهم أنها فى مرتبة أعلى من الجهتين بما يخول لها طلب ما تريد، وتتصور أنهما كان عليهما الهرولة لتلبية طلبها، مهما يكلفهما ذلك، وإلا فإن عقاب المنظمة جاهز بمثل ذلك التقرير.
ثالثا: إن المنظمة سمحت لنفسها على غير عادة المنظمات الحقوقية بإقحام النيابة العامة فى الموضوع، وهو بالطبع تجاوز لا يمكن قبوله بأى حال، بل إنها تمادت لتوجه النصائح للنيابة العامة بما يمثل تدخلا سافرا فى القضاء المصري. وجدير بالذكر هنا أن التوصيات التى وجهتها المنظمة للنيابة العامة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك انحياز المنظمة لرجالها والمرتبطين بها أو بالأحرى لعملائها وعدم إيمانها بمبادئ العدالة للجميع. إذ أوصت المنظمة النيابة العامة بعدم الاعتداد بالاعترافات والأدلة التى تم الحصول عليها بالتعذيب إلا فى القضايا ضد مرتكبى التعذيب، بل أوصت بإسقاط أى تحقيقات مع المحامين نتيجة نشاطهم ضد التعذيب. وهنا لابد أن نلاحظ سعى المنظمة للدفاع عن فئة معينة حتى لو أدى الأمر لإهدار مبادئ العدالة دون أن تهتم كثيرا بأن ما تطالب بإسقاطه هو تحقيقات، وكأن هؤلاء فوق المساءلة بصرف النظر عن طبيعة النشاط الذى قاموا به، وما إذا كان يتفق وصحيح القانون أم لا. التدخل والطعن فى القضاء المصرى من قبل المنظمة لم يتوقف عند ذلك الحد، حيث قال التقرير إنه «لم يصدر فى تاريخ مصر الحديث حكم إدانة نهائى ضد عنصر فى أمن الدولة، أو الأمن الوطنى لارتكاب انتهاكات» وكأن المطلوب لإثبات الجدية فى مواجهة الانتهاكات أن تصدر أحكام بالإدانة دونما تحقيقات.
رابعا: إن المنظمة تقر بأن تقريرها قام على مقابلات مع 19 شخصا قالت إنهم تعرضوا للاعتقال والتعذيب، ولكنها فى خطابها للداخلية والنيابة العامة لم تطلب توضيحا لموقف هؤلاء كما يفترض، ولكنها طلبت طلبا عاما مفاده طلب معلومات شديدة العمومية، ومن ثم فإنه حتى فى حال ردت الجهتان فإن ردهما لن يشمل بالضرورة جلاء لموقف الأشخاص التسعة عشر الذين تزعم المنظمة تعرضهم للتعذيب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن من يقرأ الشهادات التسع عشرة لابد له أن يشعر بأن من كتب تلك الشهادات هو كاتب سيناريوهات لأفلام سينمائية محترف، هدفه التأثير على القراء لتصديق ما كتب، وكسب تعاطفهم مع هؤلاء الأشخاص، لتأكيد ما تزعمه المنظمة من أن «التعذيب فى مصر عمل ممنهج». كما يجب ملاحظة أن تقرير المنظمة يؤكد أن الحالات التسع عشرة هى مجرد عينة من «الحالات الكثيرة» التى تزعم المنظمة أنها وثقتها، وطبعا فإن التقرير لم يتعرض للسبب الذى دفع المنظمة لإخفاء تلك الحالات التى وصفتها بالكثيرة دون أن تذكر عددا محددا!
لقد جاء الرد على تقرير المنظمة فى معظمه سياسيا ولم يشتبك مع التقرير نفسه، باستثناء تقرير الهيئة العامة للاستعلامات، وذلك انطلاقا من كون التقرير مسيسا ومنحازا تعبيرا عن مصالح الجهات والدول التى تمول المنظمة كما أكدت وزارة الخارجية. كما يخاطب رأيا عاما منقادا لما تقوله المنظمة، ولا يأبه بمنطقية التقرير، ولا بمدى المعلومات الواردة فيه إلى الدرجة التى يثق معها فى تقرير مبنى على مقابلات مع 19 شخصا أجراها شخص واحد وحرره شخص آخر ليبرر وضع «خاتم» المنظمة عليه. وإمعانا فى خداع قراء تقاريرها حرصت المنظمة على شرعنة وضع الجهة الوحيدة التى نقلت عنها الكثير من ادعاءاتها، وهى اللجنة التنسيقية المصرية للحقوق والحريات التى ادعت المنظمة أنها جهة حقوقية مستقلة، بينما هى فى الحقيقة مؤسسة معروف أنها تتبع وتعبر عن جماعة الإخوان الإرهابية، بل إنها أنشئت خصيصا لهذا الهدف فى عام 2014.
الرد على التقرير الحالى أيا كانت طبيعته لم يعد هو المهم. الرد على التقرير القادم من المنظمة وأخواتها هو الأهم، وهو الذى يجب أن يشغلنا جميعا، خاصة أن المنظمة باتت مصرة على سياسة استهداف مصر، وتأليب المجتمع الدولى عليها، إذ إنها حثت فى التقرير الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة على «التحقيق مع عناصر الأمن الوطنى المصرى ومقاضاتهم فى محاكمها». حقا إن المنظمة هنا «تفعل أشياء لا تصدق».
لمزيد من مقالات علاء ثابت; رابط دائم: