رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مسكونة بالكتابة ويدعوها إليها نداء غامض من أعماقها
منى الشيمى: أنا كاتبة بالفطرةوابنة حكايات الأرض فى قريتى

كتب - أسامة الرحيمى
فى أولى رواياتها «لون هارب من قوس قزح»، كانت «الراوية مومياء»، تتحدث من تحت اللفائف فى مرقدها، وحكيّها بعث سيرتها الحيّة فى خط مُواز مدهش بمصر القديمة، لنعرف أنها كانت أميرة، وزوجة لحاكم، وكشف لنا من جانب آخر مدى استفادة الأديبة بدراستها للآثار وتاريخنا القديم.

.........................................

وفى روايتها المعروفة «بحجم حبَّة عنب» التى حازت على «جائزة ساويرس» قبل سنتين، ورُشِّحت للبُوكر ضمن القائمة الطويلة. كتبت عن ابنها المريض بورم سرطانى فى المخ «بحجم حبة عنب» وفق وصف الطبيب المختص، أفلحت فى تجاوز الشخصى إلى الإبداعي، فلم تتصعب على نفسها، وتجنبت الأديبة آلام الأم، وكشفت حقيقة علاقتها بالواقع والحياة، عبر حكيها لابنها خلال رحلة علاجه التى لم تنجح، لتخفف عنه أوجاعه، والضغوط عن كاهلها.

وفى روايتها «وطن الجيب الخلفي» تتصدى لمحاولات الصهيونية تزييف التاريخ المصرى القديم لصالحها بالمخالفة للحقائق، فيزرعون لأنفسهم نقوشا، ويزعمون تاريخا فى «جزيرة إلفنتين» بأسوان وقت الاحتلال الفارسى لمصر، مستفيدة باطلاعها الجيد، ودراستها لتاريخنا الثري.

وببعض أعمالها العشرة حصدت جوائز الشارقة، ودبى الثقافية، و«البى بى سي»، و«أخبار الأدب»، فاستقوت بها إبداعيا ضد كل إحباطات الواقع، والمعوقات الاجتماعية. رسّخت أقدامها فى مجال الأدب، كاتبة حصيفة، تعرف قيمة الإبداع، وقدرات الفن الإيجابية، وأهمية الإنحياز للقضايا الإنسانية مُنزّهة عن أية أبعاد شخصية.

> موضوعيتك أنقذت روايتك «بحجم حبّة عنب» من التباس السيرة الذاتية، والمستوى الفنى جعلها تتجاوز الإحباطات المحيطة، وربط الخاص بالإبداعي، فلأى مدى يحتاج هذا النوع الواعى من الكتابة إلى الاحترافية والموضوعية؟

السير الروائية، أو الذاتية تحتاج إلى الصدق. لم أكن أقصد ربط الخاص بالإبداعي، فالصدق وحده فعل هذا الربط، وأستعين بمقولة عبد الوهاب المسيري: «الإبداع هو الربط بين أشياء لا رابط بينها»، وأضيف إليها: «دون قصد من الكتابة الصادقة». وعند كتابة رواية «بحجم حبة عنب» امتلكت لحظات صدق نادرة، لا أدعى امتلاكها فى العادة، ربما لأن الحدث الذى واكبها كان مهولاً بالنسبة لي، عندما يتحول المفقودون بسبب مرض السرطان إلى أرقام فى إحصائية، تقرأها فى جريدة أو تراها فى برنامج تلفزيوني، لا تهتز كثيرا، هنا تُقيّم الأمر من مسافة آمنة، لكن أن يصبح الإنسان فى بؤرة الحدث، «النار فى جلبابه» كما يقال فى الصعيد، عندئذ ترى الـ «ماوراء». وببساطة ابنى كان مريضا بالسرطان، وأنا كاتبة تمتلك بعض أدوات التعبير، بلورتها التجربة لترى ما هو أبعد، ربما لهذا السبب نفسه يكتب المبدعون تجاربهم مع المرض، يتجاوزون فيها الشخصى الضيق، إلى براح العام، ليلمس ما يكتبونه الكثيرين غيرهم ويعبر عنهم!، ثم يفرض الصدق الاحترافية اللازمة لتقديم النص، يفرض الموضوعية فى تفصيل الشخوص، ويجد ألف درب إلى القارئ!

> عانيت كثيرا رفض المجتمع لك ككاتبة. لكنك اجتزت مراحل التعويق والاتهام إلى منطقة الإبداع. فهل جرحك الهجوم، أو عطّلك، أم كان دافعا كبيرا للكتابة؟ ألم يكن هذا عبئا إضافيا بجانب معاناة الأدب؟

أنا كاتبة بالفطرة، أو بالوراثة، وابنة الحكايات، الأرض فى قريتى ترابها حكايات. الحكايات التى روتها العمات، وكل امرأة قريبة للأب عمَّة بالضرورة، ولدى العشرات منهن! كن يجلسن فى ظلال الرحبة بين البيوت يغزلن ذكرياتهن! ربما اختلطت هذه الحكايات بخيالى الخاص، مع بعض الوعي، وهذه مقومات الإبداع فى أدنى صورة من وجهة نظري، وبدون أن أقصد، التصقت حكاياتهن بحكايتى تماما، وأكاد لا أفرق الآن بين ما يخصهن وما يخصني! وربما يعود هذا إلى أن ثمة أشخاص يمتلكون الذاكرة الجمعية للمكان بمن عاش عليه من بشر، الخبرة التى وصلوا إليها من تجاربهم، وتشابكات النفس فى أعمق تعقيداتها، إن كان هذا حقيقة فأنا من هؤلاء!

أما بخصوص رفض المجتمع واستنكاره لكتاباتي، فى البداية كُنتّ هشَّة واتهام الآخرين لى كان يوترني، وكنت أقف عاجزة أمام أى هجوم، لم أكن أعرف الطريقة التى أدافع بها عن أشكال الاتهام وهى عديدة، منها مثلا: «هذه الكاتبة تكتب تجاربها الشخصية»، خاصة إذا تطرق موضوع القصة إلى العلاقات السرية بين الإناث والذكور، وتدعى أنها مجرد قصص، و«هذه امرأة تريد الشهرة بفضح مجتمعها، وتهمل بيتها وزوجها وأولادها، وتسافر بمفردها»، وفكرت وقتذاك فى صد كل هذا بوسيلة سلمية، ستؤتى ثمارها بعد حين، لهذا كان الاستمرار تكريس للمبدعة، وإخلاص للإبداع، ولم يكن الأمر صعبًا، على الرغم من اختلاف دوافع الكتابة فى محطاتى الرئيسة، إلا أننى فى كل محطة كنت أكتب لأننى مسكونة بالكتابة، لأننى استريح بها، يدعونى إليها نداء غامض يأتى من قرار مكين بأعماقي!

> شكَّل لك المسكوت عنه فى المجتمع، والتابوهات منجما لكتابة ظلت محفوفة بالمخاطر، والعداء، فتناول أى شيء فيه مفاهيم خاطئة لوضع البنت، أو الجنس كان بمثابة كشف لأعصاب المجتمع المحافظ، واستنفاره ضدك، واتهامك بالانحراف، هل إغراء الإبداع وجماله أعانك على تحمل تلك الضغوط والتهديدات؟

فى البداية لم أكن أعرف أن ثمَّة تابوهات فى الكتابة، بدأت من منطقتى الجغرافية النائية، كتبت ما يلمسني، ما يجعل روحى متوترة، ما يجعلنى أشعر بالاغتراب فى مجتمعي، وكان ما أكتبه معبرًا عن حال كثيرات، حتى أن بعض الصديقات تواصلن معى فى هذه الفترة يعرضن عليّ مشكلاتهن مع أسرهن ومع المجتمع، خلطن بين الكاتبة وبين المعالج النفسي! وذات مرة حدثتنى صديقة كى أساعدها فى حصولها على الميراث، وهذه مشكلة تتعرض لها بعض النساء، اللاتى يحرمن من الميراث كونهن إناث يتزوجن من غرباء، وتخيل حال مجتمع يقول عن الأنثى فى أمثاله الشعبية: «يا تجيب العار يا تجيب العدو فى الدار». الآن. أرى أنه كان من الأفضل الجهل بما كُتب سابقًا عن المسكوت عنه، لأنها كانت فرصة لأتناوله بجرأة ومن منظور مختلف، كما كان جهلى بتقنيات الكتابة فرصة لابتكار تقنيات جديدة، واختيار زاوية تخصنى لأنقل الصورة منها. هاتان الحالتان لم يساعداننى تقنيا وبجرأة فقط، بل جعلتنى الأولى لا أُقدِّر حجم استنفار المجتمع ضدى وبدء توجيه الاتهام، وجعلتنى الثانية أطأ أرض الكتابة بلا خشية من وجودى على الرغم من وجود العظماء أساتذة القصة والرواية فى مصر!

وعندما بدأت أعى ردّة فعل الكثيرين كنت أتحقق داخليا، كانت الكتابة تشكل وعيي، وتضعنى بقوة أمام قضية ما، بدأت بالكتابة عن قهر المرأة، موضوعات القصص والروايات الأولى لأى كاتب لا تخرج عن دائرة حياته ومجتمعه، وما عاناه، مهما وارى نصوصه خلف شخوص لا يمتون له بصلة، مهما قدم إثباتات حدوثها لأشخاص مختلقين! ثم، حدث أن قررت الكتابة عن القهر فى المطلق، ربما لأننى تجاوزت هذه المرحلة لما هو أوسع وأرحب: مشكلات الإنسان الوجودية، الهوية، فكرة الموت! هذه إحدى أهم تجليات الكتابة من وجهة نظري، أن تتسع الرؤية فتتسع معها الأفكار!

والآن لم يعد هجوم الآخرين يشكل لى تهديدا، أتأمله فقط، علِى أجد لهم عذرا. لكنى بِتّ أكتب أفكارى وأرحل.

> فى روايتك «وطن الجيب الخلفي» ــ قيد الطبع ــ عرضت لقضية شائكة، ومربكة، عن اليهود فى مصر القديمة، ألم تخشيِ اتهامك بالتعاطف معهم، أو اتهامك بالعمالة كما يحلو لبعض المزايدين بوطنيتهم على الآخرين، وتأويل الأمور بتعسف؟

«وطن الجيب الخلفي» ليست رواية عن اليهود، بل هى «رواية الهُوية»، رواية عن تزييف اليهود للتاريخ، ونهب الآثار المصرية. كتبتها بموضوعية تمليها عليّ الأمانة التاريخية، فى جزء الـ «documentary drama» فى سياق الرواية قصة الجالية اليهودية التى عاشت فى «جزيرة إلفنتين»، مكتوبة بطريقة روائية، لكن بسند وثائقي! هذا الجزء كما يقدم اليهود بشكل إنسانى يعرض المواقف التى خانوا فيها مصر وتعاونوا مع الفرس المحتلين. وقصة اليهود تحتل جزءا من القصة الرئيسة، بمثابة معادل موضوعى لقصة «ناصر» عالم البرديات الذى يبيع نفسه مقابل تزييف التاريخ! والفكرة كاملة فى الرواية، ومن الصعب الدفاع عنها قبل رد فعل القراء، لننتظر حتى صدورها ونري.

> كان لى حظ قراءة «وطن الجيب الخلفي» وأدركت عمق قراءتك لتاريخ مصر القديمة، وتصديكِ لمزاعم اليهود ومحاولاتهم الدؤوبة لتزييف تاريخنا القديم. فما الذى أغراك بالتوغل فى تلك القضايا المرهقة؟

فى الحقيقة لفت انتباهى خبر (إبريل الماضي)، عن اكتشاف «حفر لنجمتى داود» على أحد مداميك معبد «خنوم نسمتي» الموجودة أطلاله على جزيرة إلفنتين فى أسوان، وبتتبع الخبر وجدت أن وزير الآثار أمر بوضع المدماك فى المخازن، وأمر بألَّا يطلع عليه أحد إلا بتصريح مباشر منه، وهذا تصرف من وجهة نظرى غير سليم، فكان يجب فورا اختبار أصالة النقش، وعرض النتيجة على الجميع فى الجرائد، بل وكشف سجل تاريخ التنقيب المحفوظ فى المركز الثقافى السويسرى أو الألماني، فهما يتوليان الحفر فى الموقع منذ أكثر من خمسين عاما!. كان الخبر عجيبًا بالنسبة لي، خاصة أننى أعرف أن ثمة جالية يهودية كانت تعيش على الجزيرة فى القرن الخامس ق. م، لكن معلوماتى أيضا تؤكد أن نجمة داود لم تكن رمزًا لليهودية بل اتخذتها الصهيونية رمزا لها بعد اقتراح هرتزل فى القرن التاسع عشر، وأول ظهور لها فى الحفائر الأثرية كرمز لليهود كانت على شاهد قبر فى جنوب إيطاليا فى القرن الثالث الميلادي! هذه كانت معلوماتى وأنا أطالع الخبر، ومع التحرى خاصة وأنى دارسة للآثار المصرية تكشفت لدى حقائق عدة، من هنا حولت مسار الرواية تماما، بعد أن كنت أعمل على موضوع آخر لا يقل أهمية، لكننى أرجأت كتابته لوقت لاحق، وكما قلت فى إجابة السؤال الأول: «الإبداع هو الربط بين أشياء تبدو للوهلة الأولى لا رابط بينها» وجدتنى أربط بين استحداث النجمتين على أحجار المعبد، ومحاولات الصهيونية تزييف التاريخ، أو الترسيخ لتاريخ جديد، يتم زرع أدلة له الآن، فى ظل الفوضى التى يعانيها العالم العربي، وهذه أدلة زائفة ضمن خطة اليهود المسماة «مسمار جحا» لإثبات حق تاريخى فى أراض لا تخصهم. على كل حال، إن لم يجانبنى الصواب فى «قيام اليهود بالعبث فى إلفنتين»، فالأدلة «تثبت تورطهم فى أماكن شتى من مصر». ولدى ملحوظة أخيرة أود توضيحها هى أن القارئ لن يشعر بالتباس إذا وضع فى حسبانه الفرق بين اليهود والصهيونية! هذا كل ما أستطيع قوله الآن!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق