رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

من الزجل الى الشعر

بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى
فى هذه السلسلة التى أكتبها عن شاعرية مصر أو عن مصر الشاعرة أتحدث فى هذه المقالة عن شعر العامية. لكن الحديث عن شعر العامية يستلزم أن نتحدث أولا عن العامية وعما تمثله فى حياتنا وثقافتنا، وعن نظرتنا لها، وهل نعتبرها لغة مكتملة مكتفية بذاتها أم لهجة من لهجات الفصحى ملحقة بها تستخدم فى الحياة اليومية والعملية، وتعجز عن الوفاء بما نحتاج إليه فى الفكر والبحث العلمى والإبداع الأدبى الرفيع؟

وإذ كانت العامية لغة مكتملة هل نواصل حياتنا بلغتين مختلفين؟ أم نكتفى بواحدة منهما ونتخلى عن الأخرى؟ واذا كانت مجرد لهجة فما هو مستقبلها الذى نريد لها أن تصل إليه؟ أن تظل لهجة دارجة كما هى، أم تتفاعل مع الفصحى وتأخذ منها وتعطيها؟

وحين ننتقل من الحديث عن العامية إلى الحديث عن شعرها، هل نعتبر النصوص المنظومة بالعامية شعرا نتعامل معه كما نتعامل مع شعر الفصحى؟ أم أنها فن آخر يختلف عن فن الشعر أطلق عليه القدماء أسما آخر هو الزجل؟ وإذن فالسؤال هنا هو: ما الفرق بين الشعر والزجل؟

ونحن لانعرف للعامية قدرها ونبخسها حقها إذا اعتبرناها صورة من الفصحى تعرضت للفساد على ألسنة الشعوب التى دخلت فى الاسلام، ثم لم يقدر لهذه الشعوب أن تصحح ما أفسدته لأنها لاتزال إلى اليوم تعانى من الأمية ومن تأثيرها السلبى فى اللغة وفى غير اللغة.

والحقيقة التى يجب أن نعرفها أن العامية ليست ثمرة للأمية، وإنما هى ثمرة للتاريخ الذى عشناه ووجدنا فيه أنفسنا بين عدة لغات منها لغتنا المصرية الموروثة عن آبائنا وأجدادنا بلهجاتها المختلفة، ومنها اليونانية التى دخلت مصر مع اليونانيين واستوطنتها معهم وأصبحت فيها لغة الحكم والثقافة نحو الف عام. وأخيرا لغة الفاتحين العرب التى أصبحت لغة الحكم والدين، وهى فى الحقيقة عدة لغات أو عدة لهجات. فالفصحى المثقفة التى نظم بها الشعر ونزل بها الوحى واستخدمتها السلطات الحاكمة غير اللهجات المختلفة التى كان يتكلمها العرب الذين دخلوا مصر فاتحين ومستوطنين. فهم قريشيون ونجديون وجنوبيون وشماليون. هذه اللغات والهجات المتعددة المختلفة هى المادة التى ظلت تتفاعل قرونا تحت تأثير الظروف السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية التى تتأثر بها كل اللغات حتى أنتجت العامية، ونحن نستخدم حتى الآن فى عاميتنا المفردات والصيغ التى احتفظت بها من القبطية واليونانية ومنها أسماء الشهور القبطية التى لاتزال هى السائدة فى الريف المصرى وأسماء أدوات ومأكولات مصرية موروثة عن القدماء فالجبن الحلوم، والملوحة، والبورى، والسريس، والسنط، والماجور، كلها مفردات قبطية.

العامية إذن ثمرة للأحداث التاريخية والتحولات الكبرى التى عرفتها حياتنا وليست كما يظن البعض ثمرة للفساد الذى لحق بالفصحى. وباستطاعتنا أن نقول إن العامية، إضافة للفصحى وللهجاتها القديمة التى نشأت معها فى الجزيرة العربية منذ القدم، لأن المجتمع العربى مجتمع بدوى مؤلف من قبائل متعددة متنقلة لكل منها لغتها أو لهجتها التى تتميز بها وتحافظ عليها. كما أن العامية المصرية إضافة للعاميات العربية الجديدة التى نشأت بعد الفتح الاسلامى نتيجة للتواصل والتفاعل بين العربية ولهجاتها من ناحية وبين اللغات واللهجات المختلفة التى كانت تتكلمها البلاد التى دخلها العرب من العراق إلى المغرب والاندلس، ومن شمال سوريا إلى جنوب السودان.

وإذا كانت العامية إضافة للفصحى فهى مكسب لمصر التى لم تكتف بأن تتكلم اللغة التى حملها العرب إليها وإنما أضافت إلى العربية الفصحى التى تبنتها وتكلمتها لغة عربية جديدة هى هذه العربية العامية المصرية، ثم لم تكتف بأن تجعل هذه العامية للمصريين وحدهم وإنما زودتها بطاقات حررتها من الحدود المحلية ومكنتها من أن تكون مفهومة فى مختلف الاقطار العربية ومنطوقة ايضاً فى بعضها. ولقد سمعت فى الغرب نساء وأطفالا يحفظون عن ظهر قلب ما شاهدوه وسمعوه من حوارات الافلام والمسرحيات المصرية التى عرضت عندهم، فضلا عن كلمات الاغانى. وقرأت بحثاً جيداً عن لهجة تطوان ـ مدينة مغربية ـ ففوجئت فيه بعشرات من العبارات والأمثال المصرية السائدة التى دخلت لهجة هذه المدينة منذ وقت طويل.

ولقد كانت هذه المسألة مسألة العامية وكيف نحكم عليها مما تعرض له المفكرون والمؤرخون العرب فى الماضى والحاضر. ابن خلدون يتحدث عن العامية وبلاغتها فيشهد لها ويدافع عنها، لأن البلاغة ليست الإعراب وإنما هى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهو يرى أن الذين يرفضون العامية وينكرون قيمتها لايعرفونها ولا يتذوقون ما فيها من خصائص وإنما يقيسونها على الفصحى فيحكمون عليها بالفساد.

ونحن نرى أن هذا الموقف السلبى الذى ناقشه ابن خلدون ورد عليه تراجع الى حد كبير فى هذا العصر الذى نهضت فيه مصر، وقويت فيه الحركة الوطنية التى استعاد بها الشعب حضوره وأعاد الاعتبار لتراثه وللغته التى فرضت نفسها فى فنون العصر: الغناء، والسينما، والمسرح، كما فرضت نفسها فى الدراسات اللغوية والأدبية التى تناولت العامية وأدبها بكل صوره وأشكاله، كما فعلت سهير القلماوى، وعبد الحميد يونس، وأحمد رشدى صالح وتلاميذهم. لكننا نرى أن ازدهار العامية تحول فى العقود الأخيرة ــ التى تراجع فيها التعليم والثقافة ــ إلى طغيان سوقى خسرت فيه الفصحى الكثير ولم تستفد منه العامية،

والعامية تزدهر بالمعنى الصحيح حين تحقق ما تحققه بفضل ما تملكه من طاقات فى المجالات التى أثبتت فيها حضورها وقدرتها على الإضافة، أما حين تحل محل الفصحى وتصبح لغة الإعلانات التجارية والبيانات والتصريحات الرسمية والمحاضرات الجامعية، ويكون تراجع الفصحى هو الشهادة التى تنالها العامية، وتفرض بها نفسها فهذا انتصار سلبى يتمثل فى المساحة التى اتسعت بغير حق دون أن يرتفع المستوى. بل نحن نرى أن المستوى الرفيع الذى بلغته العامية فى شعر بيرم التونسى وتلاميذه خاصة صلاح جاهين وفؤاد حداد لم تتجاوزه ولم تحافظ عليه.

هذا المستوى الذى بلغته العامية فى أعمال هؤلاء كان انتصارا حقيقيا خالصا لها لأنها حققته فى ظل النهضة التى عرفتها الفصحى فى النصف الأول من القرن العشرين. بل نستطيع إن نقول أن انتصارات العامية تحققت بفضل الفصحى التى لم تستعد فقط ما فقدته فى عصور الانحطاط وإنما فتحت عوالم وامتلكت فنونا لم تعرفها فى حياتها من قبل. فن الرواية وفن القصة، وفن المسرح، والمقالة الأدبية، والمقالة الصحفية وسواها مما أسهم فيه المصريون بالنصيب الأوفى واستطاعوا به أن يمتلكوا الفصحى كما لم يمتلكوها من قبل وينقلوا إليها خبراتهم ويطعموها بأذواقهم ونبضات قلوبهم. وباختصار استطاعوا أن يمصروا الفصحى كما مصروا العامية. لأن الروح التى عبروا عنها وأبدعوا بها فى العامية هى ذاتها الروح التى عبروا عنها وأبدعوا بها فى الفصحى.

وقد وقفت أمام هذه المسألة فى الحلقة التى نشرت فى أبريل الماضى بعنوان «حوار الفصحى والعامية» وأشرت فيها لنماذج من شعر البهاء زهير تجلى فيها هذا الحوار الذى نجده كذلك فيما نظمه ابن النبيه المصرى، وابن نباتة، وابن سناء الملك. وقد تواصل هذا الحوار فى العصر الحديث فيما نظمه اسماعيل صبرى، وشوقى، ورامى، وصالح جودت بالعامية، وفيما كتبه بيرم بالفصحى، فضلا عما نجده فى نثر الروائيين والمسرحيين وكتاب المقالة من أمثال يحيى حقى، ونجيب محفوظ، وحسين فوزى وغيرهم.

أعود فأقول إن العامية لا تربح شيئا بخسارة الفصحى. ونحن نرى على العكس من ذلك أن ما أصاب الفصحى نتيجة التضييق الدائم على حرية التفكير والتعبير ولتراجع التعليم والثقافة والإعلام انتقل بالعدوى إلى العامية، التى افتقرت وتراجعت على الألسنة كما تراجعت فى الأعمال الفنية المكتوبة والمعروضة.

فإذا كان هذا الذى نراه صحيحا فبإمكاننا أن نؤكد أن العامية وإن كانت لهجة من لهجات العربية فهى لهجة غنية بالطاقات التى تمكنها من أن تؤدى فى حياتنا مالا نستطيع الاستغناء عنه إذا استعادت الثقافة المصرية نشاطها، وإذا تواصل هذا الحوار الذى تحدثت عنه بينها وبين الفصحى التى تنتفع بما فى العامية من حيوية وجريان على الألسنة كما تنتفع العامية بثقافة الفصحى وثرائها الحافل المتنوع. فإذا كان علينا الآن أن ننتقل للحديث عن شعر العامية فلنبدأ بقراءة هذا الغزل الظريف الذى نظمه ابن النبيه لنعرف كيف كان المصريون يتحدثون قبل ثمانية قرون وكيف كانوا يتغزلون:

ذا المليح فى الجنة سيدو

ونامسكين فى جهنم

آه على قبلة فى خديدو ـ تصغير خد

واخرى فى هذا الفميم ـ تصغير فم

لو ترى حمرة خدودو

وعذاره ذا المنمنم

كان ترى توب أطلس احمر

معدنى بخصر معلم!

نتحدث عن شعر العامية الذى كنا نسميه زجلا إلى وقت قريب فهل شعر العامية هو الزجل؟ وإذا لم يكن كذلك فما هو الفرق بينهما؟

أما عن السؤال الأول فالجواب هو أنهما مختلفان. والفرق بينهما هو الفرق بين العامية كما كانت فى الماضى وبين الفصحى.

العامية كانت لغة حديث فقط تستخدم فى تحقيق التواصل والتفاهم فى الحياة اليومية والنشاط العملى. أما الفصحى فهى لغة الدين والعلم والشعر والنثر بتقاليدهما الموروثة عن الجاهليين ومن جاء بعدهم.

ولأن العامية كانت لغة حديث فحسب وكانت الكتابة للفصحى وحدها فقد سمى الكلام المنظوم بالعامية فى الماضى زجلا لأنه أصوات تنطق ولا تكتب، ولأن الزجل فى اللغة هو الصوت. لهذا سمى الحمام المغرد الحمام الزاجل، كما سمى السحاب المصحوب بالرعد سحاب زجل.

هذا الفرق نتجت عنه فروق بين لغة الزجل ولغة الشعر، وخصائص فى الشكل والمضمون ، وفى الأغراض التى ينظم فيها الشعر والزجل، وفى الجمهور الذى يتجه له هذا وذاك. فالزجل يتجه لعامة الناس، أما الشعر فيتجه للخاصة. من هنا يتسع الزجل لجميع الأغراض ويغرى باستعراض المهارات الشكلية واستخدام العبارات والمفردات الصريحة التى قد تتجاوز حدود الصراحة فى بعض الأحيان لتداعب الغرائز وتثير الضحك، على حين يلتزم الشعر بالتراث اللغوى والأدبى ويحافظ فى معظم الأحيان على وقاره وترفعه.

ولأن الزجل فن صائت ينطق ولايكتب فهو مرتبط بالغناء، وارتباطه بالغناء يغرى الناظم أو الزجال بتجاوز قوانين العروض. لأن التلحين أو الإنشاد يعوض ما قد يقع من أخطاء عروضية. والأمر ليس كذلك فى الشعر الذى يستمد قيمته من تراثه وتقاليده التى يحرص عليها الشاعر، لأنه يتجه بشعره لمن لايتسامحون مع التجاوز أو الخطأ، ولأنه يتعرض فى شعره للقضايا العامة ويحرص فيه على إظهار امتلاكه للغته وقدرته على إصابة أهدافه.

ومع ما يتمتع به الزجال من حرية فى النظم فالإيقاع فى الزجل ظاهر يتحقق بالتنقل بين الأوزان والقوافى. أما فى الشعر والمقصود به شعر الفصحى بتقاليده القديمة الموروثة، فالقصيدة بحر واحد وقافية واحدة، فإذا كان الشعر الفصيح قد دخل عالم الغناء فقد أدى هذا إلى ظهور أشكال جديدة لم يعرفها من قبل كالموشح وهو تطور اوسع فيه الزجل الذى ظهرت فيه أشكال وتنويعات إيقاعية تعددت بتعدد الأغراض. فالموال مونولوج أو نجوى لاينظم إلا فى بحر البسيط، وأغانى العمل تعتمد على الكلمات المحدودة والإيقاعات السريعة التى تتوافق مع حركة الجسد، أما البكائيات فتنظم من بحر السريع كما ترون فى مرئية صلاح جاهين لبيرم التونسى.

ما الذى حدث ليتحول الزجل فى العامية إلى شعر؟ الذى حدث هو أن العامية اقتربت أكثر من الفصحى فى هذا العصر وأخذت منها وأعطتها ولم تعد وظيفتها مقصورة على التواصل فى الحياة اليومية وإنما أصبحت لغة مثقفة قادرة على أن تتطور ويتطور فيها الزجل، فيصبح شعرا كما تطورت القصيدة الفصحى التقليدية وأصبحت شعرا حرا أو شعرا جديدا.

بكائية إلى بيرم

شعر صلاح جاهين

جايّة عروس الشعر م البغّالة

بملاية لف وكف مِتحنِّى

شافت صوان وحبال وناس شغالة

وأنا بابكى جنب الباب ومستنىوالشمس تقطر حزن ع الصبحية

مين اللى مات يا شبّ يابو دموع

قالت عروس الشعر للموجوع

مين اللى مات ياشبّ قل لى يا خويا

قالت عروس الشعر.. لايكون أبويا

أنا قلت أبونا كلنا يا صبيّة!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق