رئيس مجلس الادارة
عبدالمحسن سلامة
رئيس التحرير
علاء ثابت
ما إن نطقت بفكرة حوار وزيارة حتى سارع الفيلسوف الكبير الدكتور مراد وهبة باقتراح موعدها، وكان يردد عدة مرات أثناء جلوسنا: (إنها زيارة تاريخية)، وتشعب بنا الحديث على مدى ساعتين ونصف الساعة حول مسائل كثيرة، عن المطلق والنسبي، والجدل العلمى العميق بين حجة الإسلام الغزالى وأبى الوليد بن رشد، والرشدية اللاتينية، وتفسير ظاهرة الإرهاب، واختلفنا فى أمور كثيرة، واتفقنا فى أمور كثيرة، وأحب أن أسجل هنا عدة نقاط: الحوار حول تفسير الإرهاب واكتشاف أسبابه حوار ممتد، انخرط فيه عدد من كبار المفكرين، فكتب فيه الدكتور عبد المنعم سعيد، والدكتور سمير تناغو، والدكتور مراد وهبة، وعشرات من الكتب والمفكرين. وأنا أدعو إلى ورشة عمل، أو صالون فلسفى متخصص، وأنا مستعد لاستضافته، ندعو فيه السادة المذكورين جميعا وكل مهتم له بحث عميق، نناقش فيه الأطروحات الواردة فى تفسير الإرهاب، مما نتجاوز فيه الخطاب الإعلامى والتفسيرات السطحية، إلى أن نغوص فى جدل علمى دقيق، يستعرض تلك الأطروحات بالنقد والتأمل، وننطلق إلى ما وراء التفسيرات من فلسفات، وأرجو أن يكون هذا بداية لعودة الصالونات الفكرية الجادة التى كانت تشهدها مصر إلى أن نضبت وتوقفت تقريبا منتصف الستينات.والذى أتوقف عنده هنا هو تفسير الإرهاب بقضية المطلق، وأرى أن فكرة المطلق وثبوت الحقائق هى الفكرة الجذرية التى نستطيع من خلالها بناء أحكام معرفية، وبدونها تطرأ إشكالات كثيرة وعميقة على مستويات مختلفة، ولا نستطيع الحكم القطعى على داعش مثلا بأنها خطأ، لأن الدواعش سيحتجون بأن فكرتهم صواب بالنسبة إليهم، وإن كانت خطأ بالنسبة إلينا، وليس لنا حجة فكرية حينئذ للرد عليهم إلا منطق القوة والقدرة على فرض فكرة بعينها، ومن ثم فإن النسبية المطلقة تجعل حسم أى أمر يعتمد بالكلية على فرض رؤية بعينها بالقوة.وقد قال الدكتور مراد أثناء حوارنا: ألا ترى أن القول بالمطلقات سيؤدى إلى اصطدام المطلقات؟ فقلت: أختلف مع هذه الفكرة، لأن المشكلة ليست فى وجود المطلقات بل فى اصطدامها، فنظرية الصدام بالفعل من أكبر أسباب الإرهاب، وليس قضية وجود المطلق، والإرهاب ينشأ عند من يتوهم أن المطلقات لابد أن تتصادم، وهو بعينه ما نطق به سيد قطب، ومنه تولدت فكرة داعش، والقاعدة، وبوكو حرام، والتكفير والهجرة، وهو بعينه أيضا ما نادى به صامويل هانتنجتون عندما خرج بنظرية صراع الحضارات وحتمية أن تفنى حضارة بعينها بقية الحضارات، وبه تأثر من رؤساء أمريكا من دمر دولا وأوطانا من بلادنا. والمطلق الذى نؤمن به فى المقابل يملأ وعينا بنظرية تعارف الحضارات وليس اصطدامها، مما يشير إليه قول الله تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، وبهذا التعارف ينفتح باب النظر والبرهان والاستدلال وإعمال العقل، بين القائلين بمطلقات مختلفة، فيأتى قوله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن)، فأمرنا الله تعالى عند الجدل والنظر فى الأدلة أن ندير الحوار بما هو أرقى وأحسن. وإذا تلاعب أحد بفكرة المطلق، أو ادعاها لنفسه، أو وظفها فى القتل والخراب فإن هذا لا يدل على بطلان قضية المطلق فى ذاتها، وأستحضر هنا عبارة ابن رشد حين قال فى أوائل (فصل المقال) ما خلاصته إن من منع النظر فى الحكمة من أجل أن قوما من أراذل الناس قد ضلوا بها، كالذى يمنع العطشان من شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوما شرقوا به فماتوا. وأثناء حوارنا كان الدكتور مراد يدلل على هذه الفكرة بأن كل مطلق قد تولدت منه يد قاتلة، وقال لى هل تعلم أن اليد التى قتلت غاندى هندوسية، فأجبته قائلا: نعم، واليد التى قتلت كينيدى كاثوليكية، واليد التى قتلت السادات مسلمة، واليد التى قتلت ولى عهد النمسا أرثوذكسية، واليد التى غدرت بأولوف بالم بروتستنية، واليد التى قتلت رابين يهودية. لكن هذا لا يدل على أن فكرة المطلق هى التى ولدت عند هؤلاء فكرة القتل، لأنه يمكننا فى مقابل الأسماء المذكورة أن نذكر الخوارزمى رائد علم الجبر، وابن الهيثم رائد علم البصريات، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية، وابن يونس الفلكى الكبير ورائد فكرة بندول الساعة، وكل هؤلاء قائلون بالمطلق، وبجوار هؤلاء ملايين ومليارات من المؤمنين بالمطلق قد صنعوا الحضارة، وقدروا الحياة، وحاربوا العنف، بل يعلمنا المطلق فى القرآن الكريم أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأن من قتل نفسا فقد قتل الناس جميعا، ومن أحياها فقد أحيى الناس جميعا، وأن امرأة دخلت النار فى تعذيب قطة، وأن الله ينهى نهيا شديدا عن العدوان، وعن الفساد فى الأرض، وأن الشرائع التى نبعت من المطلقات قد اتفقت جميعا على المقاصد العليا التى يأتى على رأسها حفظ الأنفس. وإذا جاز أن تقول إن كل قاتل قائل بالمطلق، فلا يجوز أن تقول إن كل قائل بالمطلق قاتل، لأن الواقع والتاريخ يشهدان بملايين من القائلين بالمطلق وهم فى مقدمة المواجهين للإرهاب والقتل، وفى مقدمة الداعين لإكرام الحياة وصناعة الحضارة. كانت هذه بداية حوار مهم، أتطلع أن يمتد ويتسع ويتشعب، وأن يكون مثمرا وراقيا وهادفا، وأن يثمر لنا ثروة فكرية تبنى الحضارة، وتبقى للأجيال القادمة. لمزيد من مقالات د. أسامة الأزهرى